جراح الفقد: بقلم الهادي نصيرة

 جراح الفقد | قصة قصيرة 


حرارة الشمس بلغت ذروتها، و الهواء بات أشبه بجدار من نار، حين بدأ المسافرون يتقاطرون نحو المحطة، جماعات وفرادى، يجرّون أقدامهم الثقيلة، وهم يحملون ما ابتاعوه من أسواق المدينة.  تحت وطأة القيظ، تربض الحافلة بأبوابها العتيقة المتهالكة، بينما انبرى المحرك يطلق أنفاسه الثقيلة، المتقطعة، مستجمعا قواه استعدادا للانطلاق مجددًا.


كان حسان آخر من صعد إلى الحافلة، ليقتطع تذكرة بسرعة ويلقى نظرة متفحصة، باحثا عن مقعد شاغر. في الزاوية الخلفية، لم يلبث أن انزوى هناك متنهّدًا : " أحتاج إلى هذا الركن.. لعلي أجد فيه بعض الراحة من تعب الطريق والحياة ."  


ما إن بدأ المحرك بالعمل، حتى انطلق صوته مدويًا كزئير أسد، يتردد صداه وسط الضجيج، فيما انطلقت الحافلة ، مخترقة صخب المدينة، ومنزلقة إلى الطريق الرئيسية، تلفحها رياح الهجيرة بلهيبها الحارق المستعر.


أسند حسان رأسه إلى زجاج النافذة، محدقًا في غابات الزيتون، التي كانت تفر أمام عينيه، كأنها أطياف عابرة. غلبه النعاس، وأغمض جفنيه المثقلين، لتنفتح أمامه أبواب الماضي :


-  " أما زلت تذكرني يا حسان؟ أنا أخوك برهان.

-   آه يا أخي، أين مضيت؟ لماذا تركتني وحيدًا في منتصف الطريق؟

-  ليتني لم أتركك يا أخي، لكن الطريق كانت أصعب مما توقعت.

-  ماذا تعني؟ لا أفهم ! انتظر، لا تتركني الآن ! أين أنت يا برهان ؟"


وما لبث حسان أن انتفض من غفوته مذعورًا، وقلبه يخفق بشدة.. ظل ،للحظة، يتأمل الركاب من حوله، وقد غرقوا في صمت مطبق، بينما كانت الحافلة تعرج إلى طريق ترابية، تهتز فوق الصخور الصغيرة، كأنها تشكو تعب السفر.


أعاد رأسه إلى النافذة، يتأمل الأفق البعيد، مستذكرا، في آن،  تلك الحادثة التي قضى فيها أخوه برهان، برهان كان شابًا في مقتبل العمر، يعمل بميناء المدينة، يسعى جاهدا لمساعدة العائلة على التخلص من براثن الفقر. لكنه ألفى نفسه، يومًا بعد يوم، يحمل الأكياس الثقيلة، المعبأة بمبيد الحشرات القاتل...


 لم يكن يعي خطورة تسرّب ذرات الغبار السام إلى رئتيه، التي ما لبثت أن تراكمت في أعماق صدره، وداخل القصيبات الرئوية، وقد غابت عنه كل أسباب التأمين المهني، والإسعاف الطبي، فصار يواجه أقسى المتاعب، دونما مساعدة تسنده، ويد تمتد إليه لتشمله بالإحاطة والرعاية اللازمتين...


ذات مساء، نزل خبر موته على العائلة نزول الصاعقة، وكان كما لو أن الصمت، هو الذي ساقه ليوقد نار ألم سعيرها لن ينطفئ...


وبين مكذب ومصدق للخبر، انهمرت الدموع مدرارا، وانفطر قلب الأم حزنا على رحيل العزيز الذي ترك غصة في القلب، وجرحًا نازفا بلا شفاء...ا


أخرج حسان يده من النافذة، ليداعب الرياح الساخنة، كأنه يبحث عن ملمس لذكرى أخيه في الهواء...


 تنفس بعمق، حين توقفت العربة، قبل أن يترجل بخطى متثاقلة...

هناك، بعيدا، تتراءى البيوت والمساكن، وقد تناثرت بين السهول والتلال، متوارية في تلافيف الجفاف والقحط، كأنها أطياف ذكرى عابرة، تاركة خلفها حكايات عن أيام، كانت الحياة فيها تزهر رغم قسوة الأرض...


✍️___الهادي نصيرة | تونس



تعليقات

المشاركات الشائعة