سراب الوجوه: بقلم الهادي نصيرة

 سراب الوجوه | قصة قصيرة


ذات زيارة له في منزله، وجدته جالسا في الشرفة، يراقب الشارع بصمتٍ عميق، والهواء البارد يلامس وجهه، فيما بدت عيناه تائهتين، تتابعان بإمعان كل التفاصيل في حركة الناس... 

"محسن"، الرجل الذي كان يتحرك كدوامة لا تهدأ، أصبح اليوم مجرد متفرج على مشهد الحياة من بعيد...


قطعتُ عليه شروده، لأسأله عن أحواله، فأجابني، وفي عينيه التماعة دمعة توشك أن تسقط :

- « الحمد لله على كل حال». 

وقبل أن أعود لأسأله مجددا، وجدته مسترسلا في الحديث :

«حين أفقتُ في ذلك السرير الأبيض، بين أنين الأجهزة وبرودة المكان، لم أفهم لأول وهلة أن العالم، الذي كنتُ أتحكم بخيوطه، قد انقلب رأسًا على عقب... ساقاي، اللتان كانتا تقودانني في كل خطوة انتصار، كانتا هامدتين، ووجدتني أعيش في عالم جديد، تتحكم فيه عجلات كرسي صغير...رائحة القهوة، التي يحملها نسيم الصباح من مقهى قريب، تعيدني للحظةٍ بعيدة، قبل أن تتوقف ساقاي عن الحركة... كم كان الأمر يبدو بديهيًا آنذاك ؛ أن أمشي بخطوات واثقة، نحو طاولة المقهى المفضلة لدي، وأفتح حقيبتي الجلدية، وأضع دفتر الحسابات أمامي... تلك التفاصيل الصغيرة، التي كانت، آنذاك، روتينًا عابرًا، أصبحت الآن أشبه بحلم بعيد المنال...لم أكن أدرك ، وأنا أقف بشموخ في قلب السوق، محاطًا بهمسات الزبائن، ومزيج العطور والأصوات، أن تلك اللحظة، قد تكون آخر خطواتي على الأرض. أنا، التاجر الذي اعتدت أن أحكم كل تفصيل في حياتي بقبضة النجاح، لم أتوقع أن تلقي بي ضربة قدر مفاجئة، في هاوية العجز، والاعتماد على الغير ».


نظرت إليه، مترددًا في طرح السؤال، فابتسم ابتسامة باهتة، كما لو كان يقرأ أفكاري، ثم أردف :

 « ماذا أردت أن تقول ؟ ها إني أسمعك !»

سألته : « وماذا عن أصدقائك الكثر ؟ هل ما زالوا يزورونك؟»

انطفأت الابتسامة من شفتيه، وأطرق رأسه للحظة، كأنما يبحث عن الإجابة المناسبة، ثم رفع عينيه إليّ، وقال بصوت مثقل بالحزن :

«في البداية، كانوا يأتون... كانوا يتحدثون، بحماس، عن أنهم، سيساندونني، وسيقفون معي في كل شيء، وأن علاقة الصداقة بيننا لن تهزها العواصف... كنت أصدقهم، وأقول لنفسي : مهما قست الحياة، فإنها لا تزال تحمل لي وجوهًا صادقة.

لكنهم صاروا، مع مرور الأيام، يتناقصون، واحدًا تلو الآخر، وبدأت زياراتهم تقل، ومواعيدهم تتأجل، واعتذاراتهم تتكرر، وأمسى هاتفي صامتًا... 

حتى أقربهم، الذي كنت أعتبره أخًا، لم يعد يظهر. وكأن الحادث لم يأخذ فقط ساقيّ، بل أخذ معهم ما كنت أعتقد أنها روابط متينة، أبدا، لن تنصرم ».


ثم ما لبث أن أطلق ضحكة جافة، أشبه بالبكاء، قبل أن يضيف :

- « ما أبشع أن يتخلى عنك الناس، حين تسقط، على الرغم من أنك لم تسئ لأحد ! 

الله وحده أعلم بما كنت أكنّه للآخرين. ولكنني أدركت، الآن، أن ليس للإنسان، في النهاية، إلا نفسه».


صمت قليلًا، ملوحا ببصره إلى البعيد، ثم تابع بمرارة :

 «لكنني لا ألوم أحدا... ربما كنتُ أعيش الوهم، وربما كنت أنا السبب في ذلك ؛ فالرجل، الذي كان الجميع يحسب له ألف حساب، لم يعد أكثر من اسم تردده أصداء الماضي».


 وفي اللحظة التي توقف فيها عن الكلام، تناهى إلى أسماعنا صوت طرقات خفيفة على الباب. توجه أحد الحاضرين ليفتحه، ودخل رجل بدين، متوسط القامة، وبين يديه باقة زهور. تقدم خطوة، وقال بصوت يحمل مزيجا من التردد والشجن :

«صديقك القديم... جئتك بعد غياب طويل. لا أجد الكلمات التي تليق بالموقف... هل تذكرني، يا صديقي؟».


ساد صمت ثقيل، كأن الزمن توقف فجأة. بينما التفتُّ إلى ذاك الذي لازم كرسيه المتحرك، لأراه فاغرا فاه، وعيناه مفتوحتان على اتساعهما. وبدا كأنه يحاول النطق، لكنه لا يستطيع... فجأة، تداعت ملامحه، ومال برأسه إلى الأمام، قبل أن يسقط بلا حراك...


تراكض الجميع نحوه في محاولة لإفاقته، لكن دون جدوى. وانتهى الأمر بنقله على عجل إلى المستشفى، لكن الموت أسرع لاختطافه، بعد يومين، قضاهما بقسم الإنعاش...


لم يغب أحد عن موكب الدفن المهيب، الذي طغى عليه الصمت وحفيف الخطوات. وتراءت، وسط الحشد، وجوه كثيرة، عكست ملامحها ما كانت تخفيه من دموع متكلفة، وأحزان مصطنعة...


كنت أقف، آنذاك، صامتا، أحاول فهم ما يجري...

لاشيء هناك، غير الغموض الذي أثقل صدري، ووجوه باهتة اللون، يعلوها السراب...


✍️___الهادي نصيرة | تونس


تعليقات

المشاركات الشائعة