عناد: بقلم مريم رمّال

 *عناد *  بقلمي🌷

 لم تكترث لطلبه ، كان يعيده على مسامعها مرارًا وتكرارًا :" حبيبتي كفانا غربة ، تعالي لنعود إلى وطننا الحبيب حيث الأهل والأحباب ، لقد مضى العمر ها هنا في العمل الشّاق ، ألم يحن الوقت لكي نقضي ما بقي من سنيّ حياتنا حيث ترعرعنا ولعبنا في طفولتنا ؟أنا أريد أن أموت في بلدي بين إخوتي وجيراني ، أخاف أن تأتي ساعتي وأعود محمّلًا في صندوق خشبيّ ، سأستبق الزّمن قبل فوات الأوان ..." 

  كان أبو جهاد يردّد هذا الحديث دائمًا وتتجدّد هذه الأمنية كلّما أتى إلى وطنه في زيارة خاطفة وشعر بحاجته الملحّة إلى الإستقرار في بلده وخاصّة أنّه بلغ سنّ التّقاعد ولم يعد هناك داعٍ للغربة ... جميلة تلك اللّحظات والسّهرات مع الأهل ورفاق الطّفولة ، كان الجميع يتنافسون لدعوته إلى غداء هنا و عشاء هناك ، أو سهرة تحت ضوء القمر في ليالي الصّيف حيث يحلو السّمر إلى أوائل السّحر ،  أمّا أجملها فكان في ليالي الشّتاء إذ كان يجلس  مع أصحابه حول الموقد يتبادلون أطراف الحديث والنّكات والفكاهات فتتعالى الضّحكات وكذلك الطّرب الجميل وأبيات العتابا والميجانا (يا ميجانا ويا ميجانا ويا ميجانا ، أهلًا وسهلًا شرّفونا أحبابنا ) والدّلعونا الّتي تقلّب المواجع عندما يصدح صوت أبي فراس :"على دلعونا وعلى دلعونا بي بي الغربة وطن حنونا ..." 

 تمرّ إجازة أبي جهاد كلمح البصر ليسافر من جديد ويفارق الأحبّة ، فهو مضطرٌّ وخاصّة أنّ زوجته ترفض العودة معه إلى وطنه الأمّ ... وفي كلّ مرّة يتأجّج الشّوق في داخله لتراب وطنه لأشجاره وينابيعه  لأنهاره وجباله لملاعب الطّفولة  ... قائلًا:"ليتها تعود تلك الأيّام ." 

  ذات صباح استيقظ أبو جهاد واتّصل بأخته ليخبرها بأنّه اشتاق لها كثيرًا وأخذ يسألها عن أحوال الجميع مكرّرًا أمنيته ألا وهي العودة إلى قريته والإستقرار فيها لأنّه شبع من نار الغربة الّتي تكوي الصّدور وتخطف الأعمار بلا رحمة ... انهى ابو جهاد اتّصاله فنادته زوجته ليتناول الفطور فطلب منها أن تمهله بعض الوقت ،  ثمّ أشعل سيجارته ونفخها بشدّة وكأنّه ينفث كلّ مآسيه وأشواقه، فهو لم يعد يحتمل الفراق والبعاد ... افتقدته زوجته واخذت تناديه ... دخلت غرفته لتجده ممدّدًا في سريره وفي عينه دمعة ... 

  لم يحقّق أبو جهاد أمنيته بل حصل ما كان يخاف منه إذ عاد إلى وطنه في صندوق خشبيّ ليحتضن تراب ارضه من جديد ولكن هذه المرّة لن يفارقها .

    مريم رمّال - لبنان .


تعليقات

المشاركات الشائعة