انسلاخ: بقلم سعاد جكيرف

 انسلاخ

عاشت حياة طبيعية في كنف أسرة رأس مالها الحب والاحترام،تمنت منذ صغرها ولوج عالم الأعمال وكسب المال الوفير لتعوض على والديها عسر الحال،درست واجتهدت وتفوقت وحققت ما تصبو إليه...

هاهي اليوم سيدة أعمال تمتلك معملها الصغير،في تصنيع الأجبان ذات النكهات الطبيعية،كان الإقبال على منتجاتها كبيرا،لجودة المنتوج وعقلانية التسعيرة، مقارنة بمنافسيها.

لم يعجبه نجاحها واشتعل قلبه غيظا،وبدأ في مخططاته الشيطانية ليوقع بها...

أتاها كمشترٍ متذوق ،بعدها انتقل إلى مرحلة نسج خيوط العنكبوت حواليها،ولأنها كأي امرأة تحب الإطراء،وقعت في شباكه،وتعلقت بشخصه ،فهو فارس الأحلام المناسب،لا تنقصه وسامة ولا حسب ولا جاه...

تقدم إليها فوافقت رغم تحفظ والدها،إذ نصحها بالتريث فمدة ثلاثة أشهر تعتبر فترة قصيرة جدا لأخذ قرار مصيري كالزواج،لكنها تجاهلت رأيه،وانساقت وراء قلب يتوق للحب والعيش الرغيد،وتحقيق أحلام باتت وشيكة.

مضت أشهر قليلة على زواجها،عاشت فيها أجمل الأيام،في عشها الذهبي،منزل اختارت ديكوراته بنفسها،جهزته على ذوقها،منزل الداخل إليه يحس أنه في حديقة غناء تمتزج فيه كل الألوان الزاهية بتناسق وانسجام رائعين يعكسان ذوق صاحبته الراقي...

كل مساء،كانت تجلس معه في الشرفة تحت ضوء القمر تعزف على كمانها أجمل الألحان وهو ينظر إليها بكل حب واهتمام،أو هكذا كان يُخيّل لها.

ولأن دوام الحال من المحال،ولأن التكّلف و التصنع لا يدومان طويلا،ولأن الطبع دوما يغلب التطبع،بدأت المشاكل تطفو على حياتها،لمجرد أن طلبت عودتها للعمل.

غضب وثار،وأخبرها أنه يريدها أن تكون ملكة في بيتها،مدللة كالأميرات،وتترك العمل له،فهو خبير في هذا المجال

استغربت ردة فعله،وأخبرته أنه تعرّف عليها وهي مديرة أعمالها،وأعجب أنذاك بطموحها وذكائها وإدارتها للأعمال،فما الذي تغير؟!

-اعتبريني رجلا شرقيا،تفكيره رجعي،لا يقبل خروج زوجته للعمل،اعتبريني زوجا غيورا ،محبا يأبى أن يتحدث غيره إلى زوجته،ولو في إطار العمل.وأردف متباكيا:

-أنت شمسي أنا وحدي،ولا أريد أن تنيري ببسماتك الرقيقة ولا بنظراتك الساحرة حياة غيري...أجاد الدور لدرجة   أن صدقته المسكينة،ووافقت على تسليم مشروع حياتها له.

 -كيف لي أن أسلمه نفسي؟ وأخاف تسليمه وثائق عملي؟!كم أنا غبية،قالتها وهي توقع  على توكيل عام يعطيه الحق في التصرف بكل ما يتعلق بمعمل الأجبان.

شهر واحد كان كافيا لتحويل المعمل وتجهيزاته باسمه،وكذلك كل رصيدها في البنك،لم يترك لها ولا شيء،حتى مملكتها الصغيرة،عشها الذهبي،هدية زواجها نقل ملكيته له...

بعدها،كل شيء تغير،الحلم أصبح كابوسا يتراءى لها في اليقظة قبل المنام،تغير تغيرا جذريا،أو لنقل نزع قناعه المزيف وظهر على حقيقته،الرجل الانتهازي،الطاغية، العربيد.

لم تسلم المسكينة من تعنيفه النفسي والجسدي،من الحرمان العاطفي والمادي،أصبحت تعيش العتمة في وضح النهار اشتكت لوالدها،حضر رغم كبر سنه،فناله من التحقير والتعنيف ما جعله يسقط أرضا فاقدا للوعي، بعد ثلاثة أيام قضاها في العناية المركزة فارق الحياة،بسبب مضاعفات ذبحة صدرية،فكانت القطرة التي أفاضت الكأس...

صرخت بملء ما فيها،وتوعدت بالانتقام...

ابتسم في استهزاء وهو يتظاهر بتهدئتها أمام الجميع.

انهارت المسكينة،لم تفق إلا وهي ممددة على سرير ،وأحدهم يحقنها بمهدئ،أو هكذا قيل لها...

في غياهب الأحلام دجنة تحف بها من كل مكان،طيف والدها ينظر إليها بحزن شديد،تناشده المعونة،يمضي بعيدا عنها دون أن ينبس ببنت شفة،تحاول فتح عينيها،بصعوبة كبيرة،يتراءى لها  خيال امرأة شابة، ذات شعر أشقر تهمس في أذن أحدهم: انتبه لقد اسيقظت من جديد،سأحقنها بالفاليوم وأعود إليك حبيبي....

ماذا يحدث لي؟!أين أنا؟!قالتها بصعوبة وهي تحاول فك يديها المقيدتين..

أنت في مستشفى المجانين عزيزتي،أدخلك زوجك الوسيم منذ شهر،وأكد علينا أن نتعامل معك بمنتهى الحذر،فجنونك في مرحلة متقدمة جدا،وتعالت ضحكاتها وهي تخرج متأبطة ذراع رجل لم تتبيّن ملامحه...

يا إلهي!! دوامة بلا قرار تهت فيها،ولا مخرج لي منها إلا بتوفيق منك...يا إلهي!!أنقذني من براثن هذا الشيطان وأتباعه،قالتها وغفت من جديد...

تشابه ليلها ونهارها،أغلب الوقت نائمة،رائحة العقاقير عطّلت حاسة الشم لديها،لا أحد يدخل غرفتها سوى تلك الشقراء...

اسيقظي نجلاء،إنه يوم جميل،فتحت عينيها على وجهه،نعم إنه هو،لكن ماذا يحدث؟! إنها غرفة نومي!!هذا سريري!! وقبل أن تواصل تساؤلاتها قاطعها قائلا: إليك الإتفاق،بما أنك سيدة أعمال سابقة،وتفهمين في الصفقات،سأعقد معك واحدة: تمكثين هنا في البيت كزوجة مطيعة وخادمة لزوجتي الجديدة.بمرتب لا بأس به، وسأترك لك هذه الغرفة بذكرياتها الجميلة لتنامي فيها،فكري جيدا،إن راقت لك الفكرة فمرحى،وإلا سأعيدك حيث كنت...

زوجتي حبلى، في شهورها الأولى،وترجتني أن أحضر لها خادمة تستلم  المهام المنزلية،ولأنها إنسانة رقيقة وعاطفية،فقد فكرت بك..الصراحة تأثرتُ لنبل أخلاقها.،ما رأيك؟

-موافقة طبعا،صوت نسائي قالها بغنج ،التفتت صوب الصوت،فرأتها من جديد،إنها تلك الممرضة التي أدمت ساعديها بحقن الفاليوم...

في لحظة،مرت على ذهنها حلقات المسلسل من أولى حلقاته إلى آخرها، لا،استدركت،ستكون الحلقة الأخيرة من تأليفي،إخراجي وتمثيلي،سأكون البطلة بلا منازع،غمغمت وأعلنت موافقتها مبدية شعورها بالارتياح المزيف.

بدأت عملها بعدما تعافت،تتجول في منزلها،لكن هذه المرة كخادمة وليس كسيدة،تنظف وتطبخ تحت المراقبة وتعزف كل مساء على كمانها معزوفات رومانسية لزوجها وضرتها وإن تماطلت في ذلك، كان التهديد والوعيد بالعودة إلى المصحة العقلية مصيرها،كانت كل ليلة تعزف حكاية وجع تمزق الأوصال وتنتحب لفراق من كانت سببا في فقدانه،وترثي حبا مزيفا كان سبب دمارها واندثارها.

اكتملت أشهر الحمل وأنجبت غريمتها ولدا وسيما جدا،رغم براءته إلا أنها لم تكن له أية مشاعر،بمجييه انشغل الأبوين بصغيرهما،فكانت فرصتها لتنفيذ خطتها،لم تعد تمتلك قلبا ولا عاطفة،أصبحت فارغة من الداخل شاحبة باردة كالأموات قلبها اعتبرته عضلة تضخ الدم لباقي أعضاء الجسد لا غير،الأحاسيس والمشاعر الإنسانية انمحت من قلب محطم مكلوم.

حضرت عشاء فاخرا لهما،متظاهرة ببهجتها بقدوم ولي العهد،زينت طاولة الطعام بأجمل الزهور التي غرستها في سابق عهدها، عطّرت الغرفة وشرعت في عزف أعذب الألحان،لكن هذه المرة كانت في أوج ابتهاجها،فاليوم ستتحرر من وحوش آدمية استعبدت إنسانيتها،وجردتها من كل عاطفة.

دخلا مبتهجين بالاستقبال،رقصا على تلك الأنغام على ضوء الشموع وهما يتهامسان، بعدها جلسا ليتناولا ما لذ وطاب و هي تتفحصهما بخبث كثعلبة ماكرة تتحيّن الفرصة المناسبة لتنقضّ على فريستها...بعد مدة وجيزة،بدآ يترنحان،وقبل أن يستوعبا ما يحدث لهما،استسلما لنومة سرمدية. مضت إلى الصغير،تأملته مليا،ثم لفته في حامل الرضع،علقته على كتفيها، أغرقت المنزل بالبنزين، ثم أخذت شمعة من شموع العشاء الأخير، رمتها وهرعت للخارج بعدما أغلقت الباب على حلو الذكريات ومرها،،لم تشعر ولو بذرة ألم،وهي تتأمل  ألسنة اللهب تلتهم  المنزل وما فيه ،رمت الماضي خلفها واستدارت لتنطلق إلى وجهة مجهولة بشخصية  جديدة،لكن مهلااااا!!قالتها ونظرت للصغير ،هذا سيبقى عقبة في درب استقلاليتي،أ أرميه في النهر،أم أتركه في غياهب هذه الغابة المعزولة،لن يتفطن لوجوده أحد ،وستكون فرصة إنقاذه ضئيلة،لكن ما ذنبه؟ ليتحمل وزر والديه...

مشت تشق دربها بين الأشجار المحيطة بأطلال منزل كان فيما مضى جنتها،وهي تفكر في كيفية التخلص من ربيبها،مع طلوع فجر يوم جديد، وعلى مشارف المدينة،تناهى إلى سمعها صوت المؤذن ،خطرت على بالها فكرة تركه عند باب المسجد،دست في ملابسه بعض الأوراق النقدية،أخرجتها من حقيبة مكتنزة حملتها معها قبل إحراقها للمنزل،وانطلقت في رحلة تجهل  آخر محاطاتها.

تمت.


                       سعاد جكيرف


تعليقات

المشاركات الشائعة