أرواح عنيدة: بقلم هيثم العوادي

 قصة قصيرة

أرواح عنيدة

جميلة هذه النافذه دائما ما كانت تُدخل البهجة على غرفتي الكئيبة، الضوء المتسلل منها ينبض بالحياة، تشعر به يحطم الزجاج، كأمواج تزيح الهموم التي تراكمت على قلبي العليل، ينقلب كيان الغرفة الى كائن حي، تهزه الموسيقى المنبعثه في خيالي؛ فيطرب لها ويتمايل يمينا ويسارا، الموسيقى الحالمة كأنها واقعية، تتراقص معها أغصان شجرة التفاح القريبة من النافذة، فيما تشابكت أغصانها المشرعة بوجه الرياح، تلك الحركة ودفق النشاط الذي ينمو، جعلني أمسك بها ولن أتركها مهما حاولت الإفلات من ثغري ابتسامتي الغائبة منذ شهرين تعود إلى محياي.

تركت جسدي المسجى قليلا واعطيت مساحة لعقلي ومخيلتي لتنساب مع هذا الجمال، شدني في هذه اللحظة شجرة التفاح التي تورق من جديد، ولفت انتباهي ورقة يابسة متعلقة بطرف الغصن، كأنها قطعة صفيح معلقة بسلسلة ذهبية على جيد فتاة شديدة البياض، ورقة قديمة وصلت إلى نهاية محطاتها ،أنهكها هذا العمر القصير، موسم واحد عمر قصير لا يلبي الطموحات.

 تشبثها بمشيمة النجاة من أجل البقاء، تدل على عزيمتها القوية، وشجاعتها بتحدي الأزمات، تعانق غصنها الحبيب، الذي بدأ ينبذها، لم يكن الغصن وحده بل كل شيء يسير بما لا تشتهي سفنها، فقدت أغلى احبابها، شاهَدَتهم يتساقطون واحدا تلو الآخر، وكأنها مرآة حالي ، وقدري التعيس، الغصن ينفثها بقوة؛ ربما مل من هذا العناق!، او ربما أغرته وريقات خضراء يانعة تنبت على طوله الفارع!، فيزدان جمالا وبهاء، وكأن الحياة تتجدد لديه، اما تلك الورقة المسكينة، تحاول صناعة أمل جديد دون جدوى .

اراقبها واستشعر معها اليأس وقرب الرحيل، تقاسمني هذا الشعور، لكني كلما رأيتها تقاوم السقوط وتتشبث بقوة في برعمها رغم كل الظروف المحيطة: الغصن والرياح والزمن والموسيقى؛ كلما زادت عزيمتي واصراري وتشبثي بالبقاء.

 وصَلتْ إلى نهاية الطريق، مسلوبة الإرادة  فالكل تخلى عنها، أصدقائها إخوتها أخواتها، الاوراق التي بجانبها سقطت، وظلت وحيدة مع هذا البرعم الذي يحملها، لا أدري ربما تشعر بالألم كما اشعر به انا !، ليس ألم الجسد من يضج مضجعنا، انه ألم الروح أكثر وجعا ولوعة، يتركك اصدقائك، اخوتك، وحتى الأبناء، وحيدا تأكلك الثواني وتترقب آخر اللحظات.

راقبتها لعدة أيام على هذه الحالة لم تكن تهدأ، كانت ترقص وتتمتع في آخر اللحظات من حياتها أو ربما ترقص رقصة الطير الأخيرة، شغلتني هذه الورقة عن حالتي، ورحت أواسيها في هذه اللحظات الصعبة، كانت تاتي الممرضة تهتم بي وترعاني، لكني لم أرَ أحدا يرعاها لا أدري ما شعورها ورأيها؟ هل تتعاطف معي؟ هل تتحدث عن البائس الذي يرقد بسريره الأصم؟، لماذا لا يخرج الى هذه الطبيعة؟ لماذا لا يرقص على الأقل كما أرقص مع هذه الحياة الكئيبه؟.

 مشؤما ذلك الصباح، داهمتها الريح، كأني اسمع حشرجة استغاثتها، خيط رفيع يفصلها عن النهاية، ضَعفتْ مقاومتها، طَارتْ تتهادى عاليا.. شَعرتُ بدوار وأنفاسي تضطرب..رفعتُ رأسي أراقبها، رأيتها تترنح، كانت تهبط رويدا رويدا.. دقات قلبي تتسارع تريد أن تحطم صدري.. بفعل الرياح الشديدة صَعدتْ إلى أعلى نقطة تصلها.. رشح جبيني، أحسستُ بدوار شل حركتي، زاد اضطرابي.. نَزلتْ إلى الأسفل التصقتْ في لحاء شجرتها الأم.. تيبست أطرافي ولم أعد أشعر بها.. انزلقت من مكانها، عادت تتمايل من جديد.. تتقطع انفاسي، ويصعب علي التقاط الهواء..آخر نظرتي لها كانت تتوسد العشب.. سَقط رأسي عن الوسادة واغمضت عيني، بعد أن توقف جهاز دقات القلب برنة واحدة طويلة، عم بعدها الهدوء داخل الغرفة  .


                                   هيثم العوادي



تعليقات

المشاركات الشائعة