رحلة الرواية: بقلم علي حداد

 رحلة الرواية .. قبل ان تزف اليكم


 مدينة دلس الجزائرية شتاء عام 1974 انتهيت من كتابة هذه الرواية ..بعد ان استغرقتني كتابتها عشرون يوما عاصفة برياح طائشة ومطر عجيب وغيوم مظلمة ..ورعد وبرق مخيفين،وظلام يخيم على تلك الصباحات. 

كان العالم الخارجي مثل عالمى ففي اعماقي السحيقة كانت تدور مثل هذه الثورات العجيبة والانفعالات الغريبة .. واردت بذلك ان افجرفي سماء راكدة بالونا يبهر العيون .. وأن ارمي بحجر في بحيرة راكدة فحملتها مثل رضيع الى بغداد لمعالجة طبعها ونشرها وكانت الدنيا لاتسعني .كنت فرحا ومنتشيا ومتباهيا بنفسي..طاووس لم يبلغ الرابعة والعشرين من العمر ..دم حار..وخطوات واثقة يسمع صداها كل من كان في الجوار، وبعد اكثر من سنة ونصف اخبروني انها لاتصلح للنشر..تاهت خطواتي وتبدد فرحي ..واخيرا قابلت الاستاذ عدنان قال وهو يمسح شفتيه < ان شخصياتها هلامية، واحداثها ضبابية وان الزمكانية فيها مشوشة وغير واضحة المعالم ..نظرت اليه طويلا..ودموع بقت محبوسة في عيني لاتقبل ان تنزل ...........هل يعرف هذا الرجل الذي يرتدي  بذلته التي تشبه القهوة المخلوطة بالشاي وحذائه  الملطخ بالطين ..هل يعرف ماعانيت من اجل طباعتها على الآلة الكاتبة والتي استغرقت ثمانية اشهر ..طبعتها عند < ارضحلجي  وكان من اقذر ما رايت في حياتي > زرتهه في المستشفى الذي اجرى فيه عملية الزائدة الدودية وانا احمل له باقة ورد وهو يتمتم امامي  <قحط ليش ماكو شربت > واشتريت له طاولة من مزاد الصباغ حين كسر رجل ضخم  الطاولة على راسه ..واشتريت له معطف لأنه راح يرتجف هو واصابعه التى يطبع بها ..وفي كثير من الاحيان كان يخرج اوراق روايتي من طابعته ليكتب عريضةلأمراءة تريد ان تغير اسمها من ظمنية الى ظنية ..او لرجل يريد تصحيح اسمه من ركي الى زكي ..الذي غضب وهو يصيح به < يأخي هيه نقطة شدعوة> ..عدنان بحذائه المصبوغ بالطين لم يكن يدرك ماعانيته حين قدمتها الى دار المأمون بعد سنتين  وحين جاء ردهم بأنها لاتصلح للنشر وحاولت جاهدا مقابلة الخبير دون جدوى  وبعد اكثر من سنة حصلت على تقرير الخبير الذي أكد ان هذه الرواية مضيعة للوقت ... وفي العام 1979ارسلتها بيد صديقي الفنان الكبير جواد الشكرجي الى سوريا ويوم ذاك كان مشروع الوحدة بين العراق وسوريا مشتعلا  وحين عاد زف لي البشرى  بانهم وافقوا على طباعتها فأقمت وليمة كبرى دعوت فيها كل اصدقائي  .. وقد رقصت حينها حتى تعبت واوشك ان يغمى على .. ولم تتم فرحتي ,فقد فشل المشروع وارسلوا يعتذرون عن نشرها ..وفي العام 1981خطرت في ذهني فكرة ان اقدمها  الى الملحق الثقافي في السفارة الجزائرية وكان لي ماأردت  وكان رجلا كيسا مدركا لما عانيته وهكذا اخبرني انه سيتصل بي .. وفي العام 1982 اتصل بي وكنت يومها اقوم بخدمةالاحتياط .. ابان الحرب العراقيه الايرانية ..قابلته كان مايزال كيسا وهو يبشرني انهم وافقوا عليها  لكن ثمة مؤشرات تستدعي سفرك اليهم .. اخبرته انني عسكري ولايمكنني السفر .. ابتسم وهو يقول لاعليك نحن سنخاطبهم ..من سيخاطب ؟توسلت اليه ان يسلمني الرواية ريثما استشير صديق لي  ..ومن السفارة الى وزارة الثقافة والى صديقي القاص والروائي عبد الستار ناصر .. قصصت عليه كل شىء وإذ به يسبني ويتصل بأحدهم وكان يهز برأسه  موافقا ويصيح متوسلا عن النية السليمة .. فقد كنت مراقبا مراقبة دقيقة للغاية حتى انهم عرفوا بمدة مكوثي هناك 75 دقيقة وكان القانون يحرم على العسكري الاقتراب من السفارات وعقوبة هذا الاعدام رميا بالرصاص فكيف بمراجعتهم لثلاث مرات متتالية ..وكانت  واحدة من زيارته بصحبة امراة بقت هي في ا السيارة ل 48دقيقة .. بقيت لثلاث سنوات مرعوبا  يسكنني خوف مجنون .. وفي العام 1985قدمتها الى دائرة الشؤون الثقافية لكني وفي العام  1987وقعت في الاسر وعشت في اقفاص الاسر الايرانية  14سنة وهي من السنين العجاف في حياتي وحين عدت سنة 2000كتبت رواية ايام كنا نحتال على الاشياء وهي تحكي قصة تلك الرحلة العجيبة ..مرة اخرى بعد كل تلك السنين خطر لي ان اذهب لأسأل عن روايتي وماحل بها .. رايتها.. رايت بنيتي مركونة .. عتيقة مثل مومياء ..مومياء تنبض بالحياة لكنها كانت تهمس لي ان احفر قبرها لتخرج ..فقد منعوها من الخروج  كالعادة  واستلمتها بيدي وانا اردد< شنو التفت عليهه حيه > وحين قصصت كل هذا لاخي وصديقي الشاعر سلمان داود محمد وكنت قد يأست منها تماما وفي النهاية اجبرني ان اقدمها مرة اخرى الى دائرة الشؤون الثقافية ..وعلى الحاسوب اعدت كتابتها  بهدوء  عساي ان اجد سبب المنع والرفض وعدم الصلاحية لكني لم استطع ان اغير حرفا واحدا ولا ان اضيف شيئا عليها ... وذات يوم سعيد بهيج اخبرني شاعري الطيب وبهدوء عجيب بما كان سيودي بحياتي < حداد الآن أو دائما وافقوا على طبعها ..........................مبروك  .............اين صاحب البذلة القهوائية الملطخة بالشاي الاسود ..وحذائه الملطخ بالطين ليسمع كل هذا ويدرك ..كل هذا ..بعد 34 سنة من المعاناة والجري في كل الاتجاهات والتخبط على الابواب ..... لكني آمل لعدنان جديد ان يتعظ من هذه القصة ويتريث قبل ان يردد ..شخصيات ضبابية واحداث هلامية ..وووو والى الشاب الجالس امامه وهو في عمر الزهور لتنشر روايته وهو في خريف العمر .. لكنه والحمد لله مازال مثل طاووس يتبخترفوق الكلمات ... والمصيبة الاكبر التي تنتظرني هي انه ربما يكون عدنان محقا في كل ما ذهب اليه


تعليقات

المشاركات الشائعة