سيرة : بقلم ثائر البياتي


 سيرة

امرأة تمد إلي ذراعيها من خلف ضباب، في نهاية طريق موحش خال تماما، اركض ثم أحلق صوبها، مادا ذراعي إليها، أفز على صقيع أو لدغة حشرة. يجافيني النوم حتى أكاد أن أسقط إعياء، فأعود إلى خربتي، أفترش الأرض متوسدا ذراعي، غير مبال بالكلاب السائبة، فقد اعتدنا النوم بجانب بعضنا، لافز فجرا على امرأة تمد إلي ذراعيها من خلف ضباب، أظل متربعا بانتظار بزوغ الشمس، لأبحث في الحاويات وقرب الجدران، عن كسرة خبز أو بقايا طعام، أمشي طوال النهار لاستجدي لقمة أو بعض نقود، ولم يعد في دشداشتي-التي لا أذكر متى أو من ألبسني إياها-، ما يستر جسدي، ولا مفر من الشتائم أو التهديد والوعيد، والضرب أحيانا، فكثير من الناس يخافوني، أو يتجنبوني، بسبب وساختي ورائحتي النتنة، وكثير منهم يتعوذون من الشيطان، فبعضهم يصفوني بالمسخ، أو بهيكل عظمي حي، ومع أنني غدوت يافعا؛ إلا إن البؤس ازداد ضراوة، ولم أصل إلى الامرأة التي خلف الضباب. عندما سحبني من يدي، رجل فظ، و  اطعمني كبابا، وسقاني قنينة صغيرة من العصير،  مع نظرات الوعيد؛ فقدت وعيي، عندما استفقت ظننت أنني لم اعتد التخمة، لأعرف لاحقا، أن في العصير ما يغيب الوعي، كنا خمسة، بنفس العمر والبؤس، محبوسين في غرفة، نتناول طعاما فاخرا، وأنواع العصائر اللذيذة، من يد ذاك الرجل، الذي لم أعرف اسمه إلى هذه الساعة، استعدنا عافيتنا وازدادت أوزاننا على يديه، حتى إنه ألبسنا ملابس جديدة، لكننا كنا طوال الوقت شبه مخدرين، ننام كثيرا وإن استفقنا نترنح، بعد شهور؛ أختفى واحد منا، تلاه الثاني، على أيام وشهور متباعدة، دون أن يجيب عن أسئلتنا، بل نهرنا وهددنا بالضرب إن سألنا،  كنت الأخير، لأعرف بالصدفة، إنه يبيعنا بكامل صحتنا وكامل  ابداننا، إلى تاجر يبيعنا بالمفرد، أعضاء طازجة، استطعت الإفلات من قبضته، ورغم شعوري بالدوار؛ دخلت السوق راكضا، فلم يستطع اللحاق بي وأضاع أثري، ليال وأيام مرعبة امتدت إلى شهور وسنين، بين خوفي من أن يمسك بي، وبين حسرتي على الطعام والمنام، يفتك بي الجوع والتشرد، اللذان ازدادا شراسة، فجأة اتخذت قرارا حاسما ، بالسرقة والسطو، و استأنست حقا بالسطو على  ذات البيت، في  حي مجاور، فقد استهوتني حديقته الغناء، وغرفه الواسعة الدافئة، بإضاءة خافتة دائما، رجل مسن ثري وحيد، يعود يوميا بعد انتصاف الليل،  مخمورا يصعد مباشرة إلى الطابق الثاني، حيث غرفة نومه، ليغط فورا بنوم عميق، أغفو أحيانا لساعتين أو ثلاث، على إحدى الأرائك الوثيرة، وفي كل ليلة آكل ما لذ وطاب من الطعام، الذي لا  أدري من يملأ به الثلاجة على الدوام، وفي مجازفة مرت بسلام؛ وجدت في الطابق الثاني، دولابا مليئا بثياب جديدة، لشاب يبدو بعمري ، لأنها على قياسي، أتسكع طوال النهار على شاطيء دجلة، ففي بطني ما يكفيني إلى الليل، وملابسي لا تلفت الانتباه، فلست متشردا ولا وسخا، لكني لا أدري حقا لم استعذبت، ذاك الشراب الأصفر بطعمه اللاذع ورائحته الغريبة، كلما تناولته يدب خدر في جسدي، ويغشاني النعاس، لكني أقاوم خشية أن يمتد بي النوم، وتحدث كارثة ما، ومع هذا أظل شاعرا بنشوة وحبور،  أعوض النوم بالنهار، تحت ظل شجرة كالپتوس متطرفة، في إحدى حدائق إبي نؤاس، حتى إنني نسيت تماما، تلك المرأة  خلف الضباب، بل لم أعد أحلم أساسا، ولا أظن من يعيش هذا الترف، بحاجة لأي حلم، حتى جاءت تلك الليلة التي حرصت طوال شهور، على عدم مجيئها، شربت من الشراب الأصفر أكثر مما اعتدت عليه، فغلبني الخدر و لفني  نوم عميق، لافز  مرعوبا على صرخته، جاثما فوق صدي، مهددا إياي بالقتل، طالبا  اخباره كيف دخلت بيته، ولم أنام على أريكته!!، اشتبكنا بالأيادي، فليس من خيار، أما أقتله وأما يقتلني، فقتلته بالسكين الكبيرة، التي انتزعتها من يده، لكن الجيران انقضوا علي، اوسعوني ضربا و ركلا، لأجد نفسي   بعد دوامة عنف ورعب، ببدلة حمراء، في فجر بائس قارص البرودة، مساقا في طريق موحش خال تماما، الضباب كثيف، ولا امرأة تمد إلي ذراعيها..

تعليقات

المشاركات الشائعة