لعبة الظلال وجحيم الذاكرة: بقلم ليلى المرّاني وقراءة الناقدة سامية البحري

 لعبة الظلال وجحيم الذاكرة 

بين "أبي عرموطة " و صاحب الأنف الطويل 

تقنية الاسترجاع وارتحال في ثقوب الذاكرة في نص "ظل من الماضي" للكاتبة ليلى المراني 

ورقة نقدية استقرائية بقلم الناقدة سامية البحري 

   مدخل :

أبدا ..لن يهدأ الطرق وضجيج العالم كله داخلك 

نص يستحق أن يكون موضوع اختبار في تقنية الاسترجاع وطريقة توظيفها 

بنية سردية محكمة جدا وفن في استنطاق بواطن الشخصية والعزف على أوتار الذكرى بقدرة فائقة على التقاط التفاصيل 

الترميز الذي تحمله الشخصيات موظف بحكمة تكشف عن اقتدار كبير تمتلكه الأديبة ليلى المراني في صناعة النص القصصي 

وتحميله جملة من المقاصد النقدية الهامة. .

ظل من الماضي هو مجموعة من الظلال تنطلق بشخصية العامل البسيط الذي يتناسل في نسيج النص السردي إلى جملة من الظلال منها المعلم والأب والراوي الشخصية الذي يتناسل هو بدوره إلى جملة من الظلال من تلميذ مفقر إلى صاحب شأن ..

وهذا التناسل الفني ضمن نسيج النص الداخلي لا يتقنه إلا من تملك أدوات القصة القصيرة لتتحول معه القصة إلى عوالم متعددة من الشخصيات والأحداث والأزمنة والامكنة

والطريف انها تجري كلها في زمن الذاكرة هذا الزمن العجيب ..!!


يا له من نص يا ليلى 

أحييك جدا جدا على هذه المعزوفة السردية 

وإنها الظلال ..الذكريات الدامية لا تتركنا أبدا أبدا 

مهما حاولنا ..حتى ولو أصابنا الزهايمر كل شيء جميل ينسى إلا تلك الجراح تظل مستيقظة لا تندمل..


ويبقى السؤال مطروحا مفتوحا كما كانت خاتمة هذا النص البديع ..

هل توقف وجع المدير بنقل العامل إلى مكان آخر ؟

ترى هل يتوقف نزيف الذاكرة بتخلصنا من أسباب النزيف ؟ 


تحياتي وتقديري أيقونة السرديات الحديثة وذاكرة الوجع الكاتبة المبدعة ليلى المراني 

أبدعت. ..بكل المقاييس

أبدا لن يهدأ الطرق وضجيج العالم كله داخلك 

(مشروع دراسة مخبرية في تقنية الاسترجاع بصدد الإنجاز ضمن دراسة نقدية  لنماذج من القص العربي الحديث الأستاذة سامية البحري )  

📚 📚 📚 📚 📚 📚 📚 📚 

النص 

ظلّ من الماضي.. / قصة قصيرة

ليلى المرّاني / العراق 


حين وضع فنجان القهوة أمامي، ارتعشت يده؛ فانسكب شيء منها على مكتبي، سارع في مسحه وهو يعتذر متلعثمًا، رفعت رأسي إليه، رأيته ينظر إلى ( اليافطة ) التي كتب عليها - المدير العام - وإسمي، ثم إلى وجهي.. ذهلت، فقد عرفته، وأظنّ أنه عرفني أيضًا، هو ب ( الوحمة ) المرتسمة على خدّه، والتي كنّا نتفنّن في تشبيهها ونحن تلاميذ في الصف الخامس ابتدائي، حتى توصّلنا أخيرًا إلى أنها تشبه العرموطة ( الكمّثرى )؛ فأصبحنا نطلق عليه ( أبو عرموطة )، وهو عرفني من أنفي الطويل الذي يكاد يسقط في فمي! ومن اسمي المميّز الذي كان يسبب سخرية التلاميذ؛ فأعود إلى البيت ساخطًا أسأل أمي

- لماذا أطلقتم عليّ هذا الاسم؟

- أبوك اختاره لك لأنه اسم جدّك

فألعن جدّي في السرّ..

نظرت إليه بإمعان: هات لي فنجان قهوة آخر، واغلق الباب من خلفك يا....

- ياسر سيّدي.. إسمي ياسر

لم أكن بحاجة أن يذكر لي اسمه؛ فقد عرفته.. فتحت النافذة التي خلفي، أشعلت سيجارةً واسترخيت على كرسيّ الوثير. حلّق بي جناحا ذاكرتي وأنا أنظر إلى حلقات الدخان التي أنفثها بتلذّذ.. كثيفة وكبيرة، ثم تصغر وتصغر إلى أن تتلاشى. كنّا معًا في صفّ واحد طوال المرحلة الابتدائية، والدي شرطيّ بالكاد يلقم سبعة أفواه جائعة، أذهب إلى المدرسة ببنطالٍ قديمٍ ممزّق يثير سخرية الآخرين، ولكن ما يشفع لي ويجعلهم يكتمون ضحكاتهم هو تفوّقي عليهم جميعًا في الدراسة، والمقالب الكثيرة التي أعملها، وتعاطف المعلّم معي. ياسر متخلّفا في دراسته كان، لا يحضر معظم الدروس إذ يقف في الحانوت المدرسي الذي كان والده الغني متعهّدا له. لم نره يومًا دون أن يكون فمه يجترّ ( سندويچا ) أو قطعة حلوى؛ فتئنّ معدنا الفارغة!

دخل المعلم يومًا إلى الصف وخلفه ياسر

- مَن منكم أضاع درهمًا ؟

وللدرهم في ذلك الوقت قيمة وقامة لم يحلم به واحد منّا، سرعان ما رفعت يدي وصحت بأعلى صوتي،" أنا.. أنا أستاذ. "

التفتت الرؤوس جميعها نحوي غير مصدّقة، ذهل ياسر وصاح وهو يكاد يبكي، " بل أنا.. أنا أستاذ أضعت درهمي، مصروفي اليومي. "

نظر المعلم إلى كلينا باستغراب، " مَن يجيب على سؤالي هو صاحب الدرهم. ماذا يوجد على أحد الوجهين للدرهم؟ "

سرعان ما صحت، " نخلة أستاذي.. توجد نخلة. "

نظر المعلم إليّ مندهشًا وضحكة ساخرة تتراقص على فمه، " صحيح، تعال خذ الدرهم.."

وأسقط بيد ياسر، وزاد حقده عليّ، لم تكن هناك أيّة نخلة على وجه الدرهم، ولكن معلّمي كإن معروفًا بتعاطفه مع التلاميذ الفقراء، وازدرائه لتشدّق ياسر ومفاخرته بوالده الثري وعدم التزامه بالدوام. لم أنسَ تلك الحادثة طوال حياتي، خاصةً بعد أن خرجنا من الصف وأوقفني المعلّم بعد أن ابتعد التلاميذ، شدّ على أذني بكلّ قوّته، فتساقطت دموعي

لا تفعلها ثانيةً، وإلاّ قطعت أذنك.-

أحبّ معلّمي، يحكي لنا حكايات كثيرة لا نفهم معظمها عن الذين يمتصّون دماء شعوبهم؛ فنرتجف خوفًا من اولئك مصّاصي الدماء، ونحلم بهم ليلًا! يحكي عن الاستعمار، فنتساءل ما هو الاستعمار؛ فيستفيض في الشرح، ونرى مدير المدرسة يتلصّص من النافذة، يسكت المعلّم ويصيبنا الذعر، حتى كان يومًا لن أنساه ما حييت.. داهمت الشرطة مدرستنا واقتادوا معلّمنا الذي نحبّه، رأيت والدي أحد اولئك الذين اقتادوه، هجمت عليه وأنا أبكي؛ فسدّد لي ضربةً قوّيةً على رأسي ألقتني أرضًا وعيناه تقدحان شررًا.. ولم نرَ معلّمنا ثانيةً..

يااااه.. كم تمرّ الأيام والسنون بسرعة مذهلة، وها هي تعود الآن تحمل معها زميل دراستي الذي كان يكرهني. طلبت استبداله بعاملٍ آخر كي لا تتكرّر تلك الذكريات، لي معه ذكريات كثيرة مؤلمة. في اليوم الثاني سمعت نقرًا خفيفًا على الباب، حين دخل بادرني والدموع تكاد تطفر من عينيه، "

 - لماذا يا أستاذ ( چلّوب )؟ لماذا أمرت بطردي؟ خمسة أبناء وأمّهم في رقبتي، كيف أعيلهم؟

 أحسستُ أنه ينطق إسمي بتلك الطريقة الساخرة حين كنا في المدرسة، تجهّم وجهي، قلت وأنا أضغط بقوة على كلماتي كي لا أخرج عن هدوئي

- لم آمر بطردك يا ياسر، ولكن بنقلك إلى غرفة الموظفين، أريح لي ولك . 

خرج وهو يتمتم.. وأنا متأكد بأنه كان يشتمني!

 📚📚📚📚📚📚📚


 القصة القصيرة  ذاكرة الشعوب وذاكرة الفرد وهي تكتسح مساحات من الزمن شاسعة كما تقلص الأمكنة رغم امتدادها الجغرافي وتختزل السنوات والشخوص في بنية فنية رمزية مشحونة بالدلالات والمقاصد النقدية ...

وهي لا تتردد في خوض معارك الحداثة بكل جرأة واقتدار محافظة على هويتها وتشكيلها الفني البديع .. 

وللحديث بقية ...

الناقدة سامية البحري

(جميع الحقوق محفوظة)



تعليقات

المشاركات الشائعة