الوصية: بقلم علي البدر

 "الوَصِيَّة"

قصة قصيرة علي البدر     


لحظات لا تنسى، تلاشى بين ثناياها الزمنُ وذاب بين شرايينه، وبتُّ أسمع نبضاتِهِ مضطربةً لمجرد أن رآني أهمُّ إليه بعد فراق أشهر. ومن عادته الصمتُ قليلًا قبل الكلام، عدا لقائي الأول معه، عندما زرته وسط هدير القذائف في السنة الرابعة للحرب، وكانت الدماء قد تيبست . استغربت لعدم تبرمه من وجع الشظايا التي تناثرت على جسده لكن خيوط إلم وأسف بدت على وجهه، لتمزق الكتاب الذي دسه في جيبه لكسر وحشة الليل وبات ملتصقا بجسده.

- ناديتكَ وأنت بين الحشود وبأعلى صوتي وأنا أتذكر تلك الأيام التي كنا نقفز الأنهار ونصعد نخلة البرحي في "كوت المراجيج"(1)، لكنك لم تسمعني. كنتَ تحمل شيئًا ثقيلًا على كتفك وأيقنت أنك تخندقت في جيكور. "يا قلب، مالك لست تهدأ ساعة؟ ماذا تريد؟ النجم غاب وسوف يشرق من جديد.."

- وها أنا يا سياب جئتك، ما أحلى اللقاء. لم يغب نجمُك فنظري اليومَ حديد. لم تعد قريتكَ ظلماءَ "خاوية المعابر والدروب"، والقلبُ لم يعد في اكتآب لن يعرف مايريد؟ البصرةُ يا سيابُ تزهو والمحبون على أشرعة سفن السندباد يحلقون، تربو قلوبُهم إليك ونسوا آلامهم القديمة، وجيكور خضراء شمسها ما عادت حزينة. 

- أرى الناس حولي يمرحون بين سؤال وجواب، قال السياب.

- لم يعد عمرُك يا وفيًا يكتنفه السراب ولا شمسٌ يحجبها الضباب، ولا يأسًا يحتضنه الفراق. "يا أرج الجنة، يا أخوة، يا رفاق"،لكنه قاطعني متحمسًا:

- "الحسن البصري جاب أرضَ واق واق ولندن الحديد والصخر فما رأى أحسن عيشًا من العراق."، 

- أراك حاضرًا لم تغب عنا في المدينةِ، كحبلٍ لا ترسو بدونه السفينة.

- وها أنا أقول يامن تذْكُرُني ومَن حملني باليوم المطير، يجوب شوارع البصرة، باحثا عن داري بألم وحسرة. أرى البصرة أيام زهوها تعود. لن أملَّ الوقوفَ لأجلكَ والإنتظار، ما دمتَ تنثر الحُبَّ والأمل في كل دار، وهمسك أسمعه ،يحمله النسيمُ وتفرحُ لرقته الشموسُ والأقمار.

- وعمري يا سيابُ قد ذابَ ولابد أن يذوبَ لأجل لحظةِ فرح تسعد من أدمتهم الحروبُ وباتت أسماءُ أبنائهم بالسوادِ تملأ الدروب. عِش أنت ويعيشُ الأملُ ولابد أن تجفَّ الدموع في المُقل. ويفرح الطفل، يعانق الأمل، وتحمل بشارةَ الخيرِ سفنُ السندباد.

- عصافيرٌ أم صبية تمرحُ 

- عليها سنًا من غدٍ يُلمحُ؟

- وأقدامها العارية

- محارٌ يصلصل في ساقية..

- كأني أسمع خفق القلوع

- وتصخابً بحارة السندباد.

- والآن يا سياب.

- أتغادر وبعجلة لم أألفها!

- حان وقت الفراق.

- وأيُّ فراقٍ وأنت مع النبضات في الشرايين تسير. قل لمن حولك، لمن تحبه. لا تحزن. نسيَ اليتمَ السيابُ والمرضَ والأيامَ الحزينة. يدخل صدري نسيمُ الشط وتنعشني موجاتُه، وعلى كركرات الأطفال وهمسات العاشقين آمنا أنام.

- وها أنا يا سيابُ أودعكَ. ما أحلى لحظاتي معك، بعمقِ الليلِ وساعةِ السحر، ننشدُ بحبٍ وزهوٍ أنشودةَ المطر.

- مطر.

- مطر. 

- مطر. 

علي البدر/ ألعراق

24/12/2023

(1) المراجيج أو المراقيق، الرق أو العبيد وأهلنا في أبي الخصيب يلفظون

 القاف جيما. والمقصود بيت الأقنان.



تعليقات

المشاركات الشائعة