قراءة نص الحي ابقى من الميت للأستاذة عبير العزاوي

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أقدم لكم قراءة في قصة الحي أبقى من الميت الفائزة بالمركز الأول في مسابقة ملتقى الإبداع العربي محور الهجرة ويسرني أن أبارك للأستاذة: أسيمة ابراهيم 

هذا الفوز واتمنى لها دوام التألق والإبداع. 


تستهل أسيمة ابراهيم قصتها بجملة حوارية تضع القارئ أمام تساؤل جاذب مشوق   مستفيدة من تقنية الحوار  والمسرحة وطاقة اللغة عبر تناوب ضمائر الغائب والمخاطب: ( ستحضرها معك قل بأنك ستفعل)  فالمتحدث الذي لاتظهر ماهيته يحاور رجلا ما طالبا بأن يحضرها وها الغائبة مبهمة الماهية مما يرفع شحنة التشويق ويمسك بتلابيب القارئ ويدفعه دفعا لالتهام القصة بحثا عن تفسيرات عبر تسلسل أحداث تضفرها الكاتبة بمهارة لتنهي قصتها بحل لذلك اللغز عبر قفلة مذهلة فنعرف أن المقصودة التي تدور حولها القصة هي (السترة) التي تعود للطفل الميت لعلها تكون السترة طوق نجاة للطفل الذي يوشك على الموت وبذلك يتحقق العنوان أي الحي أبقى من الميت نعم هي سترة نجاة تتوقف عليها حياة الطفل/ المعادل العاطفي الذي تستخدمه الكاتبة لتلقي الضوء ولو كان ضوءا شاحبا مبددا بظلام وبرودة الإهمال التي يقابل بها العالم مأساة النازحين في الخيام أيام الشتاء والعواصف الثلجية،  حيث  تبرع الكاتبة في تصوير ظروف الحياة القاسية عبر اقتطاع لحظة زمنية فاصلة بين الحياة والموت وهذه اللحظة ليست لحظة واحدة فحسب بل مواجهة كاملة بين عالمين يعرف كلاهما جيدا ما يحويه الآخر عالم لايبالي بما يحدث، وعالم يدفع ثمنا باهضا كل لحظة تمثل رمزيا ب (محمد) الطفل الذي فقدته العائلة ذاتها التي  تتمسك  بأمل إحضار سترة النجاة  لأخيه لطفل أحمد كي لا يمسك بيده مغادرا الحياة هو الآخر،  رغم أن شبح هذه النهاية يحوم حول العائلة من خلال صورة رسمتها الكاتبة تدور في مخيلة أمه، قائلة العبارة الأولى ومنطلق الحكاية المتكررة بقهر ولوعة فميت يسلم سترته لحي ينتظر دوره في طابور الموت الفجائعي الذي تعاود حكايته كل شتاء مع عواصف الثلج ليذرف العالم دمعتين يتيمتين وينشر منشورات تنزف وجعا ثم يعود كل شيء إلى صمته وبياض استسلامه بلا حل ناجع. 

سحر العنونة 

الحي أبقى من الميت عبارة متداولة تدل على تقرير حالة تتمحور  حول أحقية الحياة وأفضلية الحي يتم تداول هذه الكلمة بين طبقات المجتمع عاكسة حالة وجدانية  اجتماعية تميل للتمسك بخيط الحياة الواهي. عبارة شعبية تعكس سير مجتمعاتنا على حافة الحياة وعند تلامس خطي الحياة والموت وتداخلهما في فجائعية قدرية عميقة الأثر.

اللغة القصصية: 

تمتلك الكاتبة لغة قصصية عالية الجودة والاتقان، حادة النبرة والتوتر، وحارة العاطفة تميل للإيحاء  والتلميح، وتستفيد من طاقة الفعل  الماضي لسرد الحدث وبنائه وامتداد الفعل المضارع وقدرته على التوصيف و توسيع أفق الوصف. 

وكما أنها تمتلك القدرة على ضبط تأطير القصة بزمان ومكان محددين لكنهما عائمان لتضمن توسيع المعاناة وتعميمها وإبعاد الصبغة المحددة عنها رغم ما سيفهم من خلال الاسقاط على الواقع بأنها تدور في مخيمات الوجع السوري لكنها تصلح لكل مخيمات القهر الذي ماتني تزداد في هذه الأمة المنكوبة التي ماتخرج من حرب إلا لتقع في أتون أخرى ....

قصة باذخة الاتقان عالية الإيقاع عميقة المغزى والمضمون تناسب محور الهجرة وهل هناك أقسى من هجرة الإنسان من الوطن إلى اللاوطن ومن هجرة الإنسان من الحياة إلى الموت.


القصة 


الحيّ أبقى من الميت  


- ستحضرها معك، قل بأنّك ستفعل..

- لا أستطيع، هل جننت؟ بالله عليك كيف خطر لك هذا.

- إيّاك أن تعود بدونها  قل إنك ستفعل، لولا منعك إيّاي من الذهاب إلى أم خالد البارحة، لكنت أتيت بها بنفسي.

- حسنا، اتركيها على الله.


كادت أن تنفجر، وتصرخ بوجهه وتمزقه بأظافرها، وهي تذكره بفعلته  في الشتاء الماضي حين ظل يترقب المعونات.

أشاحت بوجهها عنه، وشغلت نفسها بتدثير صغيرها، نفخت على يديها في محاولة لبثّ بعض الدفء في أطراف أصابعها المتجمدة، مسحت بها على وجنتي وحيدها الباهتتين، وهي تقول بصوت مرتعش:

-أحمد يرتجف، أصابعه مزرقة.  سيتجمد من البرد.. تحرك يا رجل

سحب نفسا عميقا من سيجارته الرديئة ونفثه، ورد عليها بقهر محاولا كتم حشرجة الفقد:

-محمد، محمد يا امرأة..

قطع السعال صوته، التقط في عينيها هلعا ورعبا، هذه المخاوف تسللت إلى عقله، وأخرست لسانه، وجعلته يجرّ مزيدا من السعال المصطنع كي يهرب من الخيمة، أحكم لفّ الغطاء الصوفي المهترئ على رأسه، واختلس نظرة إلى ابنه المدثّر بلحاف سميك، فاحت منه رائحة الرطوبة، وقلبه يلهج بالدعاء له أن ينجو..

انتعل جزمته المطاطية الطويلة، ووضع على كتفيه الواهنتين بطانية من بطانيات الإغاثة القديمة، وهمَّ بالخروج، لكن صوتها عاد ينقر أذنيه وهي تتمتم باكية:

-لن أدع محمدا يلحق بأحمد، وأنا أنتظر الإغاثات..

أسرع نحو باب الخيمة وأزاح بقدمه الحجارة التي وضعها على أطرافه المتدليّة ليثبّته على الأرض في وجه ريح أو حيوان شارد. 

لم يكد يضع رجليه خارج الخيمة، حتى لفحت ذرات الثلج خديه، وجعلته يغمض عينيه نصف إغماضة، وتابع سيره نحو الطرف الشرقيّ للمخيم، تراءت له عائلته ذات ثلج قديم، وهم يتقاذفون كرات الثلج، كانت ضحكاتهم وحركاتهم السريعة تبثّ الدفء في عروقهم، وتحبسه داخل ستر جلديّة لامعة ومبطّنة بالفرو.  لعن الثلج في سرّه، كيف صار قاسيا هكذا، كيف أخذ منه أحمد، وسيفقده محمدا إن لم يتصرف بعجل.

تابع سيره المتعثر،  انغراز جزمته في الثلج مرة إثر مرة،  أعاد له ذاك الشعور حينما كان (بوطه) العسكري ينغرز في ثلوج جبل الشيخ منذ سنوات بعيدة، وعيونه ترصد كل حركة على الجانب الآخر، وشعوره بواجب الذود عن وطنه  ينسيه البرد ويبعث الحرارة في عروقه. وقف فجأة مكانه، سحب علبة السجائر من جيبه، التقط واحدة وأشعلها. وهج الجمرة لفح وجهه وأسال دمعة واقفة على طرف جفنه.

جلس القرفصاء، تلفّت هنا وهناك، سحب نفسا آخر من سيجارته ورماها لتنطفئ على كومة الثلج، انتفض واقفا، فتح عينيه جيدا، شعّ منهما بريقا كلّه تصميم على إنقاذ ولده. 

أكثر من عشرة جثث صغيرة مسجّاة على الثلج، اقترب من جمع الرجال المتحلقين حول الجثث صامتين بعيون ورّمها البرد و البكاء، أخذ المعول من يد أحد الرجال، وبدأ بالحفر ومع كل ضربة على الأرض، كان يزداد دفئاً، والحفرة تكبر، تمنى للحظة أن تبتلعه قبل أن يقول ما يريد لأبي خالد. 

بدأ الرجال برصّ جثث أطفالهم المتجمدة والملفوفة بأسمال بالية، في الحفرة.  عيناه تترصدان أبا خالد، حينما حمل طفله الملفوف بسترة جلدية لامعة، قبّله وشمّ رائحته، واتجه به نحو الحفرة، صار قريبا منه، عليه أن ينهي الأمر سريعا، منعته هيبة الموت من النطق، تسمّر مكانه، تشنجت أمعاؤه الخاوية، وكادت تخرج من فمه. علت نبضات قلبه على صوت المعاول، وتكبير الرجال وتهليلهم، صورة أحمد تمثلت أمامه، وكأنه يأخذ بيد أخيه ويمضي بعيداً، رمى المعول من يده، وقفز نحو أبي خالد هامساً له بتوسل:

-أريد سترته، الحيّ أبقى من الميت.

أسيمة إبراهيم

سورية




تعليقات

المشاركات الشائعة