حقيبة الأمنيات: بقلم محمد جبر حسن

 قصة قصيرة 

حقيبة الأُمنيات


انطفأت الكهرباء لحظة دخوله الغرفة(وهو ما يحدثُ في أغلب الأوقات).. بالتزامن مع ذلك وبسرعة اطلق(سعيد) رشاش لسانه البذيء بكلمات فاحشة وقبيحة مع سب وشتائم للقاصي والداني(وهذا ايضاً ما اعتاد أن يفعله في كل مرة).. 

 في غرفته المهملة تلك لم يكن هناك غير شعاعٍ خافت بالكاد ينفذ نوره من خلال زجاج متسخ لشبّاك صغير لم تمتد إليه يد لتنظيفه منذ سنوات طويلة! وهي مدة سكنه في هذا الفندق المطل على ساحة الميدان وسط بغداد والقريب من بداية شارع الرشيد.. لم تكن الغرفة التي استأجرها(سعيد) عند مجيئه الى العاصمة باحثاً عن فرصة عمل وهارباً من ضنك العيش بقريته الواقعة عند ضواحي احدى محافظات الجنوب على هذه الصورة البائسة، بل كانت سابقاً غرفة من ضمن غرف فندق بُني في اوائل الثلاثينات من القرن الماضي ذي خدمة جيدة جداً وحاصل على تصنيف ثلاث نجوم، و معظم نزلائه كانوا من رجال الأعمال والباشوات وكبار الموظفين الذين يأتون من بقية المحافظات الى العاصمة أما لمراجعة الدوائر الحكومية أو المستشفيات، ومنهم من يرتاده لقضاء بعض الوقت للترفيه في منتديات بغداد وملاهيها، ألا أن إهمال بناية الفندق من قبل مالكيه الذين تعاقبوا على شرائه والتغيرات اللوجيستية التي طرأت على مقترباته وطبيعة الطبقة الاجتماعية للذين يسكنون فيه احالته الى هذا الوضع المزري و الآيل السقوط في اية لحظة. 

تقدم(سعيد) بخطوات الى الداخل ووضع على الطاولة قنينة الخمر التي يجلبها معه يومياً بعد انتهاء فترة عمله صانعاً بورشة نجارة في شارع حسّان بن ثابت المتفرع من شارع الرشيد، والقريب من الفندق والذي يضم على جانبيه الكثير من محلات النجارة..

تحسس بيديه المعروقتين المكان شبه المظلم فاصطدمت يده بقناني خمرٍ فارغة سقطت إحداها تحت أرجله وكادت ان تقطع أصابع قدمه اليسرى التي يتعكز عليها بعد أن فقد قدمه اليمنى إثر انفجار لغمٍ ارضي بحروب الوطن العبثية.. لم يبالِ كثيراً الى تناثر زجاج قنينة الخمر على أرضية الغرفة فقد كان همهُ أن يمسك حقيبته الجلدية السوداء ويتأكد من وجودها الذي يبقيه حيّاً، الحقيبة هذه هي كل ما يملك من حطام الدنيا..! 

يتمتم مع نفسه بعد أن اصابه الذعر: 

-ما هذا يا سعيد؟ 

الحقيبة ليست في مكانها!!

 

بالرغم من فداحة الخيبة التي تحيط حياته المتعبة حاول أن لا يستسلم بسهولة لفكرة أن تكون حقيبته قد سُرقت، ربما يكون قد وضعها هنا أو هناك بين اكداس الأغراض القديمة والصناديق الخشببة والكارتونية الفارغة التي تكتظ بها ارضية الغرفة،

بسرعة اخرج من جيبه علبة ثقاب، أشعل فتيلة الفانوس النفطي المعلق على الحائط، جاسَ بنظره المكان، نظرَ الى صور معلقة على أحد جدران الغرفة لشخصيات سياسية من ايام العهد الملكي مثل نوري باشا السعيد وأحمد مختار بابان وفاضل الجمالي وطه الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني، وعبدالمحسن السعدون الذي كان معجب به جداً ووضع صورته ملاصقة لصورته وهو بالملابس العسكرية، ثم التفت الى الجدار الآخر وكانت هناك صور فاضحة منزوعة من أغلفة مجلات الموعد والكواكب والشبكة لفاتنات السينما المصرية بفترة الستينات والسبعينات.. سعاد حسني وميرفت أمين وناهد شريف ومديحة كامل ووو، اللاتي كان يقضي أغلب لياليه يتحدث معهن بخياله وهو في حالة نشوة من السكر!

بدون سابق انذار انتابته حالة من الهيجان والغضب قام على أثرها بالبصق على جميع الصور وقَلبَ محتويات الغرفة رأساً على عقب باحثاً عن الحقيبة، في ذات الوقت لم يتوقف لسانه عن إطلاق الكلمات القبيحة والبذيئة..

ربما لجوؤه الى استخدام هكذا الفاظ نابية هو للتغطية على ضعف حالته الجسمانية، كونه شاحب الوجه، قصيراً ونحيفاً جداً بأكتاف هزيلة يرتفع في وسطهما الى الأعلى رأسٌ أشعث لم يلمسه مقص حلّاق منذ شهور.. توقف بعدها عن القيح الذي يتلفظ به ومدَّ يده في جيب بنطاله واخرج مفتاحاً صغيراً للقفل الذي اغلق فيه الحقيبة، فجأة رمى بالمفتاح على شباك الغرفة وهو يصيح:

ما نفعك بعد يا إبن الكلب.. ها ما نفعك؟

لقد سرقوا مني الحقيبة..

لقد سرقوني.. 

سرقوا حياتي.. 

سرقوا كُل ما أملك من أُمنيات!

انهار على الكرسي وهو يبكي ويندب حظه التعس.. امسك بعدها بقنينة الخمر وكرع نصفها في جوفه.. لم يمضِ إلا قليلاً من الوقت حتى لعبت الخمرة في رأسه وأخذ يبكي من جديد و يتمتم مع نفسه:

ماذا انتظر بعد؟ لقد سرقوا حقيبتي، سرقوا احلامي كلها، لم يبقَ لحياتي معنى! لابد أن أضع حدّاً لحياتي التعيسة.. لا احد سيبكيني ولا أحد يهتم إن كنت ميتاً او حيّا..

في لحظة غاب عقله فيها وأسودت الدنيا في عينيه، قام سريعاً بسحب الحبل الذي ينشر عليه ملابسه ربط طرفه الأول بسياج شرفة الغرفة وعمل بالطرف الآخر عقدة احكمها جيداً على رقبته، ثم أغلق عينيه وبقي صامتاً لثواني قليلة.. بعدها رمى بنفسه من الشرفة! 

فوجئ الناس المتواجدون في ساحة الميدان وهم ينظرون بذعر الى(سعيد) وهو يرفس برجليه لعدة ثواني قبل ان يلفظ انفاسه الأخيرة ومن ثم اخذت جثته تتمرجح فوق رؤوس المارة، تعالت صيحات المتواجدين قرب بناية الفندق وهم يشيرون بأيديهم الى(سعيد)، بينما هرع بعضهم الى داخل الفندق لإنقاذه..

حينها كان هناك رجل واحدٌ فقط بملابس رثة وشعرٌ كث ووجه مليء بالتجاعيد لم تتبين منه ملامحه، ممدٌ على ظهره قرب الرصيف المقابل ينظر الى جثة سعيد وهو يضحك بفم ادرد، وبجواره حقيبة سوداء من الجلد الصناعي ممزقة تتناثر من حولها أوراق قديمة.

انتهت.

محمد جبر حسن 

بغداد



تعليقات

المشاركات الشائعة