الضياء الأخير: بقلم فاضل العذاري


 الضياء الأخير

تقدمتُ لخطبتها من أبيها برفقة وفدٍ غفير من سادات وشيوخ ووجهاء العشائر، وعدد من رجال الدين الأفاضل؛ لَعَلَّ لسانه ينعقد، ولاينطق إلاّ بالرضا والقبول. 

 إن كنت تسأل عن سر تخوّفي من رفض الطلب، أو سبب دعوتي لسعاة الخير في تلك المبادرة: ستجد مايشفي تساؤلاتك بعد سماع قصتي كاملة، بدءًا من آخر محادثة دارت بيني وبينها، حينما سألتها: 

- كيف أطلب يدك وفارقنا الطبقي كبير، وأنا ابن فلاح فقير يعمل أجيرا في مزارعكم؟ 

تبسمت ساخرة من كلماتي:

- أي فوارق تتفوه بها، وعشقنا النقي: يلغي جميع الحواجز الطبقية؟

ثم أَرْدَفَت قائلة: 

- ليس ثمة عائق يحول دون موافقة أبي سوى جدتي التي توزع الأدوار بين أحفادها وحفيداتها: كالبيادق في رقعة الشطرنج بنحوٍ يتناسب مع ثراء طبقتنا النبيلة.

تنهدتُ يائسًا من هذه المحاولة:

- إذن كيف السبيل لنيل رضاه، وأنت تنوهين أنه طوع أمر جدتك؟

أجابت بنزرٍ يسير من الأمل والتفاؤل:

 - ماعليك سوى أن تبعث إليه وفدًا عظيمًا من خيرة الرجال، وعمداء الأسر والبيوت، وزعماء القبائل.

ماهي إلا أيام معدودة على رؤوس أصابع الكف الواحد؛ حتى تحقق لها ماطلبت. 

بعد دخولنا مضيف قصره العامر، والترحيب بكل فرد منا، والجلوس على المقاعد  المناسبة: وزعتْ علينا علب الماء الشفافة، و فناجين القهوة التي سرعان ما وضعت على الأرض مؤقتا دون ارتشافها؛ لحين سماع كلماته المبشرة بقضاء الحاجة تقديرًا وتعظيمًا لقدوم ضيوفه الكرام.

بادر أحد الفضلاء بالتحدث نيابة عن أبي وأفراد عشيرتي وكل من حضر من الوجهاء، مشيرا عليّ: بطيب الأصل والنسب، وحسن السيرة والسلوك، مستشهدًا بتلاوة آية التزويج، أعقبها بذكر الحديث النبوي الشريف: (زوجو بناتكم لمن ترضون دينه وخلقه). ثم تحدث عن التقارب الإجتماعي والمصاهرة التاريخية السابقة بين القبيلتين، وتجديدالعلاقة العشائرية، وتتويجها بطلب كريمتهم المصونة.

صَمَتَ الجميع بانتظار أن ينطق لسانه بكلمة منعشة: تضخ الدم في سواقي أوردتي وشراييني. لو وضعت كفك على صدري في تلك اللحظة؛ لشعرت بأنه توقف تمامًا عن النبض، أو تطلعت إلى وجهي؛ لرأيته خاليًا من أي قطرة دم توحي بأنني على قيد الحياة خشية من سماع الجواب.

كنت أقبض على إِبهام كفي الأيمن، راجيًا من الله أن يليّن لي قلب أبيها: كما ليّن الحديد لداود عليه السلام ، ويسخّره لتحقيق أمنيتي على سنة الله ورسوله الكريم.

 ‏خاطبه الوجهاء مرّات عديدة بنداء تكرّر على مسامعه: كمن يلقّن الأموات. لم يُسمع منه ردًا يوحي بالإيجاب سوى أن سلعة البيع المعروضة، والسائدة لمن يمتلك أرصدة وأموالا طائلة؛ حالت دون موافقته في زمنٍ  لاأملك فيه سوى الحب والإيمان، والشهادة الجامعية التي منحتني الوظيفة في إحدى الدوائر الرسمية. اغتصب اليأس مخيلتي المهجنة بالانتظار، ولم تعد قادرة على استضافة بصيص آخر من الأمل.

  نفض الجميع أيديهم يأسًا من تغيير قراره الرافض: كمنْ يحثو حفنة من التراب على كفن ميت، بينما فقدت القهوة حرارتها في الفناجين الراكدة على الأرض دون أن يحتسيها أحد.

عدتُ خائبا كالمحزون دهرًا يحمل كل أوجاع السنين محاولًا قدر الإمكان: كبت عشقي المفجوع في خيبة الانتظار، غير أن غزارة دموعي أعلنت كل ما أخفيه من أسرار؛ الأمر الذي سبب لي الشعور بالتوتر والحرج الشديد من نصائح المقربين التي تدعوني إلى طي تلك الذكريات في خانة النسيان: كتذاكر سفر منتهية صلاحيتها في وقت أعلن فيه قطار الأمل صفيره الأخير وانطَلَقَ ليسحق كل أحلامي على سكته الحديدية. حينها تشبثت نظراتي في السماء، ونفثتُ حسرة مخضبة بحمرة الشفق، متأملًا ضوء الشمس الغارب ماوراء الأفق: كأنه يضمر لي سرًا مخبَّأ في غمد الظلام. 

ينتفض ابنه مدهوشًا، وتفغر ابنته فمها بذهول، وتطلب منه تتمة الحديث:

-ولكنك تختم القصة: كنهاية حزينة لفيلم عربي قديم!

تتوالى عليه الاسئلة منهما دفعة واحدة، فيهتف ابنه متلهفًا: 

- ماذا بعد؟ 

- ما السر المخبوء في طي الظلام؟

-هل بعثت إلى جدي نخبة من الشخصيات الهامة لخطبتها مرة أخرى؟

تطلب منه ابنته تتمة القصة بتوسل ورجاء:

-من فضلك، اسرد علينا ما حدث بعد ذلك؟ وكيف تم زواجكما؟

ترتسم على شفتيه ابتسامة هادئة ممزوجة بحسرة قديمة اعتلت صدره منذ اعوام، ويكمل حديثه قائلًا:

-عندما دنا منه الأجل بعد ثلاثة أشهر رحمه الله: أرسل شخصًا لطلب حضوري في تلك اللحظة معلنًا تنازله عن قراره قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.

تضيف الأم على كلماته:

-كان أبي يحاسب نفسه كثيرًا بعد مغادرة الضيوف، متمعنًا في معاني الحديث النبوي الشريف طوال تلك الفترة.

وتستطرد في حديثها:

- ليت جدتي على قيد الحياة؛ لترى كيف كتبت الأقدار مصائر الأحفاد بعيدا عن خططها القديمة التي: عصفت بها رغبات الأفئدة ، وذرتها أدراج الرياح...


تعليقات

المشاركات الشائعة