انعتاق: بقلم محمد جبر حسن

 قصة قصيرة

انعتاق


متقوقع في جحرٍ مظلم وضيّق بعض الشيء، وهذا حاله منذ عدة أسابيع، ليس في هذا الجحر إلّا أصواتٌ غامضة وغير واضحة، لكنها تبعث الطمأنينة في قلبه وتُشعره بالأمان، حاولَ أن يستكشفَ المكان ليعرفَ أين هو ومِن أين أتى؟ 

و ليعرفَ مصدر هذه الأصوات وخصوصاً الصوت المنتظم المتقطع الذي لم يتوقف أبداً.

في ظل هذه العتمة الحالكة التي تحيط به من كل جانب بدأ القلق يساوره وازداد أكثر على رفيقه الممدَّد الى جواره دون حراك والذي بدأ الهزال يعتريه حتى ركّت عظامه بعد أن قلّت الأرزاق التي كانت تأتيهما من جهة يجهلانها ولا يعرفان مصدرها، لكنها كانت السبب الوحيد في كونهما لايزالان حيين إلى الآن.

صارت مهمته الأساسية أن يتفقد هذا الرفيق بين الحين والآخر ويحاول جهد الإمكان أن يبقيَهُ صاحياً ومحافظاً على وعيه حتى لا يدخل في غيبوبة تؤثّر على حواسّه وتشلّ حركته وتعطلّهُ عن سعيه للخروج من هذا المكان المعتم، لذلك ظلّ ملازماً له ويقترب منه أكثر ولم يتركه لحظة واحدة.. الغريب في الأمر أنّه لا يزال باستطاعته -رغم هذا الظلام الدامس- أن يرى وجه رفيقه جيداً وتنتابه الحيرة عندما يدقق في ملامح هذا الوجه!.. يشعر أنّ هناك شيئاً ما مشترك بينهما، كان(يعتقد) أن صورة هذا الوجه هي صورته هو!! هاتان العينان اللتان تنظران إليه، وهذا الأنف والفم والفك وحتى كثافة الشعر كلّها كأنّها تعود إليه وتقرِّبه منه يوماً بعد يوم وساعةً بعد أُخرى، ولذا بدأ يسأل نفسه:

تُرى ما السرُّ الذي جعلني أتعلَّق بهذا الرفيق إلى هذه الدرجة رغم أنّي لم أعرفْهُ إلّا منذُ فترةٍ قليلة؟

أ هيَ هذه الملامح فقط التي أظنها لي أم هناك شيء آخر أكثر أهمية؟

 في الوقت نفسه كان قلبه يعتصر حُزناً عليه، يشعر أنه ليس فقط رفيقاً له في طريقٍ مَشياه معاً، بل هو كائن يرتبط معه بمصير واحد، تذكّر اللحظة التي تعرّف فيها عليه، يومها استطاع الهروب من محبسهِ ومعه الكثير من الرفاق الذين سرعان ما سقطوا صرعى في الطريق واحداً بعد الآخر، ولولا سقوطه بالحفرةِ ووقوعه مغشياً عليه بعد اصطدامه بشيء لم يتبين ما هو لكان مصيره مثل مصير رفاقه، حينها فتح عينيه وعرفَ أنه لم يكن وحيداً في هذه الحفرة، بل كان معه أيضاً رفيقه الذي تعلّق به منذ ذاك الوقت.

أثناء ما كان يستذكر لحظات معرفته برفيقه ازدادت الأصوات الغامضة وارتفعت وتيرتها وتناهى له من بعيد أصوات ترتفع تارة وتنخفض تارةً أُخرى إلى حدِّ السّكون، ممّا سمح له أن يسمع أنيناً خافتاً صادراً من جهة رفيقه الذي حرّك يده قليلاً وفتح عينيه وابتسم بوجهه ممتناً له و شاكراً فضله لوقوفه معه في محنته ولم يتركه يموت.

فَرِح جداً بعودة نشاط صاحبه ولسان حاله يقول:

ليس لي فضل بذلك.. إنها إرادة عليا لا أعرف كنهها.. ما عليك إلّا أن تتحمل فترة من الوقت حتى نغادر هذا المكان، لقد سمعتُ أصواتاً قبل قليل، يقولون إنهم سيعملون على معالجة الموقف وربما سيضطرون إلى الإسراع في إجراء عمليّة..

لا أعرف عن أيِّ عمليّة يتكلّمون؟

اصغِ معي.. ما هذا؟.. لقد عادت الأصوات من جديد، لكنّها هذه المرّة أعلى من كل مرّة.. دعنا نسمع ما يقولون.. أنا أشعر بهم.. لقد اقتربوا.. لقد اقتربوا أكثر..

اصرخ.. اصرخ يا رفيقي.. حاول أن تصرخ، علّهم يسمعوننا و يخرجوننا.. لقد سئمت البقاء هنا.. أريد أن أخرج و أرى ماذا يجري هناك.. هناك حيث الأصوات المرتفعة.. لعلّي أرى رفاقاً آخرين.

لحظتها امتدت نحوهما يَدٌ وحاولت أن تُمسِك برأسه قبل أن يكمل حديثه، انزلقت اليد منه مرّة ومرّتين لحين ما أمسكته بقوة وسحبته إلى خارج الحفرة، وعندما رفعوه بالمقلوب من قدميه ابتدأ بالبكاء والصراخ وهو يشير بيدهِ إلى الأسفل لينقذوا رفيقهِ الذي بقي عالقاً هناك ولا يستطيع الخروج لوحدهِ.

انتهت.

محمد جبر حسن 

بغداد



تعليقات

المشاركات الشائعة