رماد أخضر: بقلم ليلى المرّاني

 رماد أخضر../ قصة قصيرة

ليلى المرّاني / العراق

                 رحيله المفاجىء تركها شظايا مبعثرة، ثلاثون عامًا من زواج ظلّ محتفظًا ببريقه، ودفء لذيذ كان امتدادًا لحبّ مراهقةٍ عاشاها بكلّ حلاوتها تحت مباركة العائلتين. صدمةٌ هزّت كيانها وزلزلت ثوابتها.. وتركتها هشيمًا، وأقسى ما في الأمر وصيّته التي تبرّع بها بأعضائه، وأن يُحرق جثمانه ويُنثر رماده في البحر.

تحوّلت إلى تمثال صامت يتّشح بالسواد، شاردة الذهن لا تعي ما حولها.. وأصبح البحر رفيقها كلما اشتاقت إليه، تتحدّث مع أمواجه وتذرف دموعها مطرًا.. تتحدّث مع كلّ قطعة اشترياها معًا في أسفارهما الكثيرة. جمعت كلّ صوره مذ كان صغيرًا وحتى رحيله، وضعتها بعشرات الإطارات ووزّعتها في كلّ ركن في البيت، وحتى في المطبخ. 

ليلًا، تلبس قميص نومها الزهريّ الذي يحبّه، تصبغ شفتيها بلونٍ زهريّ أيضًا.. تغرق جسدها بالعطر الذي يعشقه، تقف أمام المرآة تتأمّل قوامها الممشوق ووجهها الذي لا يزال يحتفظ برونقه وعذوبة تقاطيعه رغم بعض خطوطٍ غائرة حول عينيها.. تستشعر أنفاسه خلفها، يلتصق بها، يحتضنها ويشمّ عطرها، يرتشفه بشفتيه.. تستدير نحوه مبتسمةً، يلفّها بذراعيه، دافئًا لا يزال، أنفاسه تلفح وجهها، يرقصان معًا وكلماته ساخنةً تتسرّب إلى مساماتها، " أحبّك.. أعشقك حدّ النخاع.. أتنفّسك ملء رئتيّ.."

تذوب انتشاءً، تغمض عينيها باستسلام حين يأخذها إلى الفراش.. تستيقظ صباحًا، تحتضن وسادته التي تحمل رائحته وطيفه الذي مضى.

تتجمّع عواطفها وتتكاثف، وتهدّد بالانفجار؛ فتسرع إلى البحر تمطره دموعًا.. تراه مبحرًا في أمواجه الهادرة، مبتسمًا، مادّا يده إليها،" انتظرني حبيبي، سآتي إليك "، ولكنه سرعان ما يختفي، يضجّ دمها في عروقها حدّ الأنين، " لماذا تركتني؟ ألم أكن مليكتك المتوّجة؟ " تسمع همسه تردّده أمواج البحر، " ولا تزالين، حبيبتي "، يتعانق جسدها مع رمادٍ دافىء.

صباحًا، كعادتها، تزورها ابنتها حاملةً شتلة ياسمين، تزرعها في الحديقة إلى جانب النافورة التي صنعها والدها والتي تعشقها أمها وتشعل حولها الشموع، وإطارات جديدة أخرى طلبتها منها سابقًا.. فتّشت عنها في أرجاء البيت.. صمت ثقيل يبكي.. وقميص نوم أمها الزهريّ مرميّ على الأرض إلى جانب الإطارات التي فرّت منها الصور.



تعليقات

المشاركات الشائعة