أكبر الخاسرين: بقلم مجيد الخلف أبو مرتضى

 قصة قصيرة 

.                   (أكبر الخاسرين)

   كان أبي يكلفني في كل مرة أن أدق أوتاد خيامنا المنتمية إلى عمق الصحراء.. ولأننا في كل عام كنا نتنقل مرة أو مرتين طلباً للماء والمرعى، فقد كنت أضيق ذرعاً بهذا التوتيد الممل!

   أبي يقول لهم : "دعوه ، هو أقدر منكم على ترسيخ الأوتاد ، وأدرى باتجاهات الرياح ومساقط أشعة الشمس" ... وأنا في كل مرة أصرخ في سري : "سئمت ، سئمت يا أبي ، سئمت ، سئمت ، سئمت .. كلّف أي واحد من أبنائك الأربعة غيري" ..

   لم أكن أجرؤ على الجهر باعتراضي وامتعاضي ، وفي كل مرة أستمع إلى كلمات أبي المسلية : "أنت لها يا أبا الجود ، خبرتك ، ودقة ملاحظتك ، وارتكاز دقاتك ، كل ذلك يجعلك أحسنهم.. حقاً أنت الأكفأ من كل أبنائي مجتمعين" ..

   هذه الكلمات كانت في سنوات سبقت مفتخري ، وأشعر بها تاجاً على رأسي ... أما الآن ، فلم تعد تسليني ، ولا تشد من عزيمتي ... فإخوتي ظلوا يلوذون بظلي في كل شيء ، حتى في تقديم القهوة للضيفان...


    قررت أن أتمرد على أمر أبي في انتقالنا القادم .. لقد اشتعلت عزيمتي على أن أرفض الامتثال لرأي أبي .. فلا بد أن يعتمد على أنفسهم هؤلاء الخائرون المتواكلون ..


    وقست أشهر الصيف بجفافها .. وكلفني أبي أن أذهب في طول الصحراء وعرضها ؛ للبحث عن ماء وعشب ...


     عانيت الأهوال حتى وجدت المكان المناسب .. ولأن الرائد لا يكذب أهله ؛ فقد كنت أقطع الفيافي على فرسي حتى تشققت أعالي أفخاذي...


    وأخيراً وصلت .. وبشرتهم بالمكان ... فسُر أبي كثيراً كثيرا .. وغبطني إخوتي أكثر وأكثر ...


  وأزمعنا الرحيل .. وما مر اسبوع حتى وصلنا المكان بكل أثقالنا وأحمالنا وحلالنا ...

    وكالمعتاد نادى أبي باسمي ، لكي أختار اتجاهات الخيام ، متأملاً مساقط أشعة الشمس ، واتجاهات الرياح ، قبل أن أدق الاوتاد ...

     وهنا انتفضت بجنون ... رفضت بكل ما فيّ من طاقة للرفض !


    انكسر أبي أيما انكسار !! وبهت إخوتي أي بهت !!!


    خيّم الظلام ، وأثقالنا وأحمالنا لما تزل على ظهور جمالنا... وبلا مأوى كان حلالنا...


   إخوتي الخائرون كانوا مستمري الفشل ، مسمري الشلل ، وقد جرحوا أيديهم ورضوا عظامها في دق الاطناب ، وإرساء الاوتاد ، وتثبيت الأعمدة ... وأبي يزفر بكبرياء !!!


    تنحيت جانباً ، وفرشت خرقا مهترئة ، وتمددت على عباءتي المقصبة ... نمت نومة جندي بطل استسلم للأعداء في آخر دقيقة من دقائق المواجهة ...

    أحسست أنني انهدمت في داخلي ، وهدمت معي في لحظة واحدة كل مجد السنين...

    أبو الجود ما عاد إلا ثوباً بالياً على رمل الصحراء !!! وأبوه واخوته يكابدون في تثبيت الخيام ، وإيواء الحلال ، وصد الذئاب !!!!


    لم ينتصف الليل إلا وقد انكسر ظهر أبي !!! وهرب إخوتي !!!! وضاع الحلال !!!!!

     وكنت أنا أكبر الخاسرين !!!!!!


    مجيد الخَلَف أبو مرتضى/ العراق

               ١٦ /٦ / ٢٠٢٣م


تعليقات

المشاركات الشائعة