ارتحال: بقلم أسيمة ابراهيم



ارتحال

لن أدعَه يفلتُ مني هذهِ المرة، لقد أمسكْتُ بخيوطِ اللعبةِ منذُ أن حطَّتْ قدماهُ أرضَ المطار، هو مَن عقدَها بأصابعي، حين قَبِلَ دعوتَهم، لم يكن يعلمُ أنّنا سنكونُ ضيفينِ ثقيلينِ على عائلتِه المأخوذةِ بأضواءِ المدنِ التي لا تنطفئُ، تاركةً إياهُ في غرفةٍ جانبيةٍ، خصصَتْها لهُ زوجةُ ابنِه الأصغر.

كانتِ الغرفةُ مناسبةً لي، فلا أسمعُ ضجيجَهم، ولا أنشغلُ بثرثراتِهم؛ وأتفرغُ لإحكامِ قبضتي عليه.

مع طولِ الأيامِ عافَتٍ نفسُه بقايا طعامِهم الذي كانَتْ تحملُهُ زوجةُ الابنِ إلينا بيدٍ، وباليدِ الأخرى تحملُ هاتفَها الخليوي الموصولَ بأسلاكٍ دقيقةٍ إلى أذُنَيها، تضعُ الطعامَ على الطاولةِ الموازيةِ لسريرِه، وصوتُها يهدرُ حينَ تغادرُ الغرفةَ وهي تملي أوامرَها على ابنِه بملاحقةِ أوراقِ الإقاماتِ، وتسجيلِ الأولادِ في المدارسِ.

سرَّني تعلقُهم باللغةِ الجديدةِ، التي لن يفقهَ منها شيئاً.

أنسلُ من رأسِهِ حين يخلدُ إلى ذهولِهِ التامِّ، وأتجولُ بينهم، أتابعُهم يتبارَون فيما حفِظوه من كلماتٍ جديدة، كلٌهم مشغولون؛ نظّموا أوقاتَهم بدقة، حتى أنّهم استغنَوا عن فنجانِ قهوةِ الصباحِ، مع صوتِ فيروزَ خشيةَ أن يفوتَهم القطارُ.

عندما يصحو يتلفّتُ، لا أحد من حولِه سوى صورٍ قديمةٍ في مخيلتِه، بيتٍ وقنطرةٍ ونافورةِ ماء، وعريشةِ ياسمين، أُفيضُ من عينِهِ دمعةً ثقيلةً، أشعرُ به سئمَ وجودي، يحاولُ التخلصَ مني، وبحركةٍ رشيقةٍ من حبالي، أجعلُه يمسحُها بكفِ يدِه، لأعودَ مجدداً إلى خلاياه، صرْتُ ملاذَه الوحيدَ، أتلقفُ كلماتِه المبعثرة، أتغلغلُ في داخلِه، وأتسلقُ حبالَه الشوكيةَ لأقتلَ تلكَ الذكرياتِ التي اختزنَها، وببطءٍ شديدٍ وثباتٍ منظمٍ أقطعُ أفكارَه حبلاً إثرَ حبل.

بدأ كلامُه يقلُ، منذ أن أخذَهُ ابنَه إلى المعالجِ النفسي، وشرحَ له حالتَهُ شاكياً دوامَ ذهولِهِ ونسيانِه. 

عادَ طفلاً صغيراً، أدويةٌ وتوصياتٌ كثيرة، ضحكْتُ في سرّي عندما أَبلغَهم الطبيبُ أنّها مرحلةٌ صعبة، عليهمُ التعايشُ معها، فالزهايمرُ لا حلَّ له.

فككْتُ يدَه من يدِ ولدِهِ وهو يحاولُ اقتيادَه إلى غرفتِه، وتأبطْتُ ذراعَه، وما أن دخلْنا الغرفةَ حتى تسللْتُ إلى رأسِه من جديد، لكنّه هذهِ المرةَ لم يتحسسْني، تجولتُ هنا وهناك، عليَّ البحثُ جيداً، قد يكونُ أخفى شيئاً ما عني! 

خرجتُ من رأسِه فزعاً، على صوت حفيدِه في الغرفةِ منادياً أمَّه: 

-"جدي تبولَ في فراشه!"

هذه هي المرة الأولى التي يفعلُها، وقفتُ جانباً، وهي تدخلُ غاضبةً تنهرُه وتفتحُ خزانتَه، تُخرِجُ قارورةَ عطرِه القديمةَ، وترشُ أنحاءَ المكانِ وتدمدمُ باللعنات ، تغللَتِ الرائحةُ في أنفي كما في عقلِه المتهاوي، حينها نهض من السريرِ وبنصفِ انحناءةٍ، وقبل أن يهويَ على الأرض، صاح بكلماتٍ غير مفهومةٍ، بينما كنتُ أغادرُ منتصراً:

أريدُ العودة ...

إلى هناك ...

إلى عريشةِ الياسمين.

أسيمة ابراهيم

تعليقات

المشاركات الشائعة