نذور لشرفات فاطمة: بقلم صابر المعارج

 نذور لشرفات فاطمة


شمس آب تصفع وجه الأرض وتتقيّأ حمما، وأغصان الأشجار اليابسة مخالب قطط اسطورية متوحشة، وثمة عصافير بلون الرماد تقذف بنفسها فزعة وتفرّ حيث أقاصي الأراضي البور، هو ذا يقبل متخبطا،  بين حين وآخر،  يتكئ بكفيه على ركبتيه، وعلى كتفيه يحمل ثقل ألف سنة غبار وأسف، تحفه بضعة قبرات، يتقافزن حوله، يقمن مراسم جنائزية لجثامين أحلام كبيرة طعنت وقبرت في فؤاده.

عمار ذاك الفتى الجنوبي ذو السحنة السمراء والطول الفارع  والشعر الأجعد، وأكثر مايميزه نظرة عينيه الحادة، حتى هو نفسه غالبا مايطرق حياء ليقينه انها تفضحه، إذ تبوح بكل ما يجول في خاطره!

وتلك هي الأجواء والطقوس التي تحيط الطريق  الذي يسلكه عائدا لينتهي به المطاف تحت أحدى شرفات قصر "فاطمة" ذاك القصر المهجور منذ نهاية حرب الثمان سنين بعد ان جئ بجثمان أبيها الطيار "جلال عاصم"


وفاطمة بالإضافة إلى كونها الابنة الوحيدة والمدللة للطيار  المرموق والثري جلال عاصم، فهي كذلك على درجة عالية من الجمال وقوة الشخصية، عيناها الواسعتان برموشهما الطويلة وأنفها الدقيق بأرنبته المرفوعة قليلا، ووجهها الحنطي المستدير، وشعرها الفاحم المنسدل حتى ركبتيها، وصدرها النافر، ومشيتها بثبات واتزان، فضلا عن إجادتها التامة لانتقاء الملابس التي تتناسق مع تكوينها الجسماني المثير!

كل ذلك جعل منها حلما أوحدا لأغلب شبان الحي. 

وليس هذا فحسب!

بل بأمكانك ان تلاحظ أن الكثيرات من فتيات الحي يقتفين أثرها، فيلبسن بعدها بفترة وجيزة، ماكانت قد لبسته. 

وعلى الرغم من ان معظم شباب الحي كانوا يحاولون الوصول إليها والظفر بقلبها، لكن ما من أحد تجرأ واقترب! 

....... 

عصر ذاك اليوم النيساني وكعادتها  أطلت فاطمة من إحدى شرفات القصر، بين يديها كتاب تطالعه، تسير بخطى وئيدة جيئة وذهابا، وقد شدت أعلى شعرها بقطعة بلون أزرق مائل إلى البياض تناسقا مع لون ثوبها القريب للون السماء.

غير بعيد تجمع أغلب الشبان! والأمر ذاك لايعد مصادفة، فهو يحدث عصر كل يوم تقريبا، وربما الجميع يحاول ان يسرق خلسة نظرة خاطفة نحو الشرفات! 

وحده عمار يغض طرفه غالبا، بل وأحيانا كثيرة ينهر المتلصصين! 

تلك اللحظة، رُكنت بباب قصر الطيار أو قصر فاطمة كما يتداول همسا بين شبان الحي، سيارة صغيرة محمول عليها تابوت ملفوف بعلم، ترافقها إحدى سيارات الشرطة... 

وما ان فُتح باب القصر حتى جلجلت صرخات أم فاطمة، وحاولت بكل ماتمتلك من قوة  الانقضاض على التابوت!

ووسط دهشة الجميع تقدمت فاطمة بخطى آلية ثابتة مخلفة الجميع وراء ظهرها ووقفت منتصبة قبالة عمار! وهمست 

:عمار! أبي مات...

ثم صرخت

:أبي مات أبي...! 

وركضت على غير هدى في عرض الطريق وهي صائحة

:أبي مات.... 

....... 

عام مضى على تلك الحادثة والقصر مهجور وقد استوطن شرفاته طائر بوم، ماانفك ينعب كلما أوشكت الشمس على المغيب. 

غارت عينا عمار، ونظراته الحادة ذبلت، وأدمن رحلة يومية مكوكية! 

وما من أحد يفقه سر انحداره فجرا في عمق الأراضي البور؟

ومواصلة سيره حتى يتلاشى في خط الأفق البعيد...

وظهرا حين يتوسط قرص الشمس كبد السماء، يقفل راجعا متخبطا،  بين حين وآخر يتكئ على ركبتيه، مستندا بكفيه، حاملا على كتفيه ثقل ألف سنة غبار ومثلها أسف، تحفه بضعة قبرات، يتقافزن حوله، يقمن مراسم جنائزية لجثامين أحلام كبيرة طعنت وقبرت في فؤاده.

.........

منذ بدء الشهر الفائت تقريبا، باتت تنسج أساطير شتى حول ظهور عمار واختفاءه!

فما من أحد جزم ان رءآه على وجه اليقين! ولم يقطع أحد بغيابه! 

والكثيرون قالوا أنه لاح لهم في مكان ما، في وقت ما، ثم بلمح البصر اختفى! 

وهناك من روى انه رءآه كعادته، يحث الخطى فجرا وينحدر في الأراضي البور ويتلاشى... 

ومنهم من حكى ان 

:رأيته عائدا ملتحفا شمس الظهيرة تشيعه قبراته، ثم حين فرت القبرات راجعات من حيث أتين؛ ركض خلفهن بسرعة جنونية حتى طار معهن! 

فيما قال آخرون، أنهم شاهدوه متكورا تحت جذع شجرة يابسة مرة ومرة أخرى تحت حائط عتيق، ثم مالبث ان تحول ظلا وهرع صوب الشمس وتوارى! 

بيد ان الحقيقة الوحيدة المؤكدة ان الجميع بات يرى آخر الليل، ضوءً خافتاً تحت شرفات قصر فاطمة.



تعليقات

المشاركات الشائعة