الكلمات العابرة: بقلم موسى غافل

قصة قصيرة الكلمات العابرة أمست تلك الذكريات تزورني ليلاً و أنا أطرح رأسي على وسادتي. فأمضي مستدرجاً أيام كنت ألتقي (رُقيَّة) ، و انا القي في طريقها ، ممازحاتي العابثة دون اكتراث. فقد كانت قبل زواجها ليست سوى طفلة هزيلة ، أرهقها العوز ، لا تبدو عليها ملامح ملفتة . فأقول لها و أنا ماض في طريقي : ـ أتوافقين أن أخطبك ؟ فتغادرني مهرولة و هي تزمُّ شفتها السفلى. بعد أن تزوجت .. كانت تلتقيني و قد تغيرت ملامحها تماما . و بدت تتسم بالرشاقة و الجمال الأخّاذ . فبدأتُ أحييها باحترام و أمضي في طريقي . هذا كل ما يخطر ببالي . لا يوجد أي أمر آخر . *** تطلّب الأمر الوظيفي أن أنتقل نهائياً و معي عائلتي إلى مدينة أخرى . فتخطت عبرها الأعوام أربعين عاماً و نيف . و تراكم غبار الزمن على الكثير من الذكريات . و لم يعد ذلك الصفاء متوفراً في بالي ، فقد أُثقلت رأسي العديد من الأمور اللاحقة . بعد كل هذه السنين ، فوجئتُ بعدة مكالمات ، من أقاربي ، تكررت كثيراً تقول : إن (رقية) تسأل عني و ترجوني أن أصلها كي تشاهدني . و عجبت من ذلك .. كيف بقيت هذه المرأة تحتفظ بذكراي بعد أفول كل هذه الأعوام ؟ و ما هو الدافع الذي دعاها بهذا الإلحاح لكي تلتقيني ؟ أَعَدْتُ ذكريات تلك الأيام . و بدأتُ أستدرج أحداثها و أرَتِّب مفرداتها التي لم يكن فيها ما يثير الاهتمام ، و أنا أتساءل : - أي شيء استدعاها أن تلح بطلبي ؟ ! و عند سفري إلى مدينتي بعذر تفقد أقاربي ـ وفي الحق هي :استجابة لرجائها ـ فاستأذنت الدخول إلى دارها ، و لاقيت الترحاب بعد غيابي الطويل ، فعائلتها من معارفي . ظلت عيناي تصبوان لملاذات البيت علّها تطل . لكن الوقت ظل يمضي دون جدوى ، فقد كانت غائبة عن الدار . و سرعان ما عدتُ ، من حيث أتيت و افترضت ان عائلتها ستخبرها بمجيئ . و لم أشغل بالي من بعد ، بهذا الموضوع كثيرا . بقيت وصاياها لم تنقطع . كانت المكالمات تأتيني من معارفي بإلحاح . و لم يكن لديّ الوقت أن أقطع هذه المسافة الطويلة . لكن الأمر شغل بالي بقوة . و داعب قلبي شعورٌ بالشوق و كان في نيتي ان استجيب . لكني اعتدت أن أكون متماهلاً لطول الطريق . و أرجأت ذهابي إلى فرصة مناسبة . * * * استلمت مكالمة ملحة جدا من معارفي . تقول : إنها بحالة خطرة و ترقد في المشفى . و كان ذلك قد شغلني كثيرا . و شكل في قلبي ندماً قاسياً . فأسرعت على الفور إلى المدينة التي ترقد فيها ، إذ تبعد بحدود الماءة و الخمسين كيلومتر . وصلت على عجل . كانت عائلتها تمكث في ممرات المشفى يكلكل عليهم الوجوم . و بعد السلام التقتني أختها باكية و جَرّتني جانباً ، و هي تقول : - كانت تسأل عنك و تقول : ألم يأتِ ؟ في غرفة الانعاش ، صعقت بحالتها وهي تبدو على شفى الهلاك. كانت تستلقي بذلك البهاء . لا يبدو أن حالتها الخطيرة قد أمضت بسلاحها كي تعبث بجلال مُحيّاها . اقتربت اختها منحنية فوقها قائلة بصوت رقيق مسموع ، كأنها تريد أن تنتزعها مما هي فيه : - هذا هو ابراهيم قد جاء . افتحي عينيك و أريحي قلبه ؟ التفتت اختها نحوي و قالت : ـ اقترب منها و دعها تسمع صوتك . اقتربت منها. ركعت على ركبتيّ ، من الجهة اليسرى، و مالَ حنكي بثقله على حافة سريرها ، و كأن رأسي ينوء بثقل ما لم أألفه من ندم : ـ رُقَيَّة .. هذا انا ابراهيم . أَلستك راغبة أن تشاهديني ؟ لم تفتح عينيها بل شاهدت دموعها تنحدر ببطء . كنت أنظر للعداد الذي يَعِدُّ ضربات القلب ، كأني أرجوه ألاّ يعلن نهايتها . لكنه أبى إلاّ أن يمضي بأنينه الموجع ، كان كما لو أنه ينتكس ، ثم يستيقظ من جديد ، كي يئن متعثراً . كانت الدقائق ثقيلة قاسية ، و كنت أتجه للطبيب بمفردي مسرعاً ، مستنجداً. لم يقل شيئاً ، بل جاء معي بخطواته الثقيلة . كنت أراها ثقيلة جداً . و عندما وقف بمحاذاة السرير كنت منشداً إلى فمه كما لو كانت حياتها رهينةً بين شفتيه . مكث قليلاً بصمت .. ثم رفع الجهاز ليعلن توقف قلبها . موسى غافل

تعليقات

المشاركات الشائعة