الابيجراما: بقلم سيد عفيفي

الأبيجراما.. فلسفة الأدب ( مقالة نقدية) تمهيد.. لعل انتشار فنون الأدب القصير والمقتضب كسمة مميزة للكتابات المعاصرة هو ما يدفعني دائما لتحليل وفحص هذا النمط الأدبي بكل فنونه المطروحة للقارئ، واليقين دائما أن الأدب هو مرآة عصره، ومردود فكر المعاصرين وخلاصة تجاربهم الذاتية والرؤيوية، بمعنى أن النتاج الأدبي يخرج محملا بعصارة الأدباء الفكرية والوجدانية، وتتميز الأبيجراما بكل فنونها بالمسحة الفلسفية ذات البعد والعمق الجامعين بين الفكر والعاطفة في آن، في شكل لغة شذرية قوية بليغة، لذلك أفضل دائما ترجمة كلمة (أبيجراما) بأنها الأدب الشذري، وهي كلمة لاتينية الأصل تعني (الكتابة على شيء) نشأت قديما عندما كانوا يكتبون على الحجر أو جلود الحيوان. كما تتميز فنون الأبيجراما الشذرية بالاقتضاب واللغة المركزة دونما إسهاب، وجمال اختيار المفردات ذات الأبعاد الواسعة بدلالاتها وإسقاطاتها، ولعل أهم ما يميز فنون الأبيجراما كذلك هو المفارقة والصدمة في نهاياتها، بحيث تكون قفلة النص غير متوقعة لدى القارئ، لكنه عندما يقرؤها يقر بأنها كانت أحد احتمالات النهاية، إلا أنه احتمال مستبعد عن مسار الفكرة، ومن وجهة نظري الخاصة فإن كل فنون الأبيجراما تعتمد على ثلاث مكونات رئيسة للنص، أولها تمهيد الفكرة، ثم نواة الفكرة، ثم تحويل الفكرة تجاه المفارقة والمباغتة، ومن فنون الأبيجراما ما يعبق بالنفس الشعري، ومنها ما يقدم الشكل السردي البسيط. نماذج لفنون الأبيجراما.. أولا؛ القصة الومضة التي تتألف من عنوان وثمان كلمات كحد أقصى، وهي سردية المعنى شعرية المبنى. ثانيا؛ اللافتة الشعرية وهي تتميز بصبغة مجتمعية وسياسية موضوعا، ولا تميل إلى اللغة الشعرية ولكنها تقدم المفارقة والدهشة في أحلى صورهما. ثالثا؛ فنون الأدب الياباني كالهايكو والتانكا والسينريو وقد سبق تقديمها وربطها بما يناظرها في الأدب العربي رابعا؛ الشذرة وسوف أقدم مثالا تطبيقيا قائما على الشذرة مع التفصيل الدقيق في ختام النقال. هذه الفنون هي الأكثر شيوعا وقابلية على مواقع التواصل وصفحات الأدب، تمثل الشذرة واجهة الأبيجراما، فهي تقدم لفتة وجدانية فلسفية خاطفة، محملة بشظايا فكرية وعاطفية متشعبة، ثم فن القصة الومضة كأصغر وحدة سردية، واللافتة الشعرية ذات الطابع الوطني والسياسي والاجتماعي، ومنها كذلك القصة القصيرة جدا إذا جاءت عالية التكثيف والاقتضاب من حيث الكم والكيف، ثم فنون الشعر اليابانية؛ الهايكو، والتانكا والسنريو، وكلها تمثل خطرات وجدانية وفلسفية وقبسات روحانية تربط بين مشهديات الطبيعة من جانب، وبين المشاعر الإنسانية بكل أطيافها من جانب آخر. ولم يعد خافياً علينا أسباب شيوع وانتشار فنون الأبيجراما في الأدب المعاصر، ولعل أهمها ضيق المساحة الوقتية والنفسية لدى القارئ، متأثرا في ذلك بالضغوط الاجتماعية والسياسية، لذلك لا يفضل القارئ النصوص المطولة التي تحتاج إلى تركيز ووقت، بل يكتفي بوجبات أدبية قصيرة جدا من حيث الكم، لكنها متشعبة الدلالات والمعاني. أما عن المقاربات النقدية لفنون الأبيجراما فقد أسهبت في تقديمها والإحاطة بتفاصيلها في كتاب خاص بعنوان (آفاق الإبداع في النقد المعاصر)، وأكتفي هنا بذكر جانب واحد يميز بين نقد الأبيجراما وبين ما سواها من الأطر الأجناسية الطويلة كالقصة والقصة القصيرة وقصائد الشعر، هذه الأجناس الطويلة تعتمد في نقدها أساسا على تجميع شتات الأفكار من النص، وتركيزه بنقاط محددة، وكذلك تعتمد على إدراك أسلوبية الكاتب من حيث اللغة والبيان والبديع بشكل شمولي، في حين يعتمد نقد الأبيجراما على تفجير النص المقتضب، حتى يصل الناقد في النهاية لتحليل شامل لكل ما تعبر عنه الأبيجراما ويقدمه للقارئ بأسلوب مفصل، ويعتمد ذلك التفجير على مدى قدرة الناقد على استخدام مناهج التفكيك وتحليل الخطاب والقياس المنطقي. الجانب التطبيقي.. سقيتُكِ.. رضابَ الحياة.. فيا والِدَةَ قلبي لِمَ ولدتِهِ فطيما؟ ........................ في هذا النموذج البسيط لفنون الأبيجراما تستعرض الشذرة - كما ذكرت آنفا- المكونات الثلاث الأساسية لتركيب الأبيجراما، تمهيد يتمثل في (سقيتك) وهو حدث تام في الزمن الماضي يقدم خبرا للقارئ، ثم نواة الفكرة في (رضاب الحياة) وهي العبارة التي خصصت فعل السقيا لكل ما هو رضاب، وباعد بين الحدث وبين صنوف أخرى من السقيا، مثل سقيا المرارة، سقيا الكراهية، وغيرها.. ثم يأتي المكون الثالث متمثلا في (فيا والدة قلبي..لم ولدته فطيما؟) هذه النهاية تحمل المفارقة والصدمة، إذ تبدأ ببيان الأساس بالنداء على والدة القلب، وتختم بأنها ليست ككل الوالدات اللاتي يتعهدن المواليد بالرضاع والرعاية، بل حكمت عليه بالفطام عند مجرد الولادة. ونستطيع تحليل الخطاب الشعري للنص وبيان فلسفته الداخلية في ثلاث نقاط محددة على النحو التالى.. أولا؛ قد يرمز الكاتب في عبارة (والدة قلبي) بالأم، فالأم هى التى تلد الإنسان كاملا بما له من قلب نابض يحيا به، وعلى هذا التفسير يكون معنى السياق أن الكاتب ينعي نفسه لأمه، يقول لأمه كنت بارا بك دائما فلم ولدتني في عالم لم يسقني راحة منذ نعومة أظافري، بل يأخذ مني كل ما لدي. ثانيا؛ قد يرمز الكاتب للدنيا في عبارة (والدة قلبي) فهو يستدرك على الدنيا التي ألقي في براثنها منذ البداية، يعطيها ويلهث وراءها وهي تدبر عنه، تأخذ منه ولا تعطيه. ثالثا؛ قد يرمز الكاتب للحبيبة، التي قدم لها السقيا بكل رضاب تجعلها تشعر بأنها على قيد الحياة وهي رضاب الحب، ويستعطفها بأنها كانت بمثابة والدة لقلبه، ولد على يديها من جديد، فكان القلب بعضا منها، لكنها حينما ولدته منعت عنه كل الرواء، وحرمته كل عاطفة تشعره بالحياة، لذلك فقد وافق لفظ (فطيما) لقصدية الكاتب، فلم يستخدم (مفطوما) على سبيل المثال، لأن المفطوم هو الذي نال فترة رضاع ثم فطم، أما صيغة المبالغة (فطيما) دلت على الحرمان التام. أخيرا.. أود في النهاية التركيز على أهم مقومات الأبيجراما وهي التجانس، فلو نظرنا لنفس الشذرة وسياق اللغة فيها لوجدنا فعل (سقى) مناسب للرضاب وهو الشراب العذب، كما يتناسب معنى الولادة وينسجم مع معنى الفطام. .. سيد عفيفي عضو اتحاد كتاب مصر

تعليقات

المشاركات الشائعة