لا سماء في النافذة: بقلم حميد محمد الهاشم

قصة قصيرة. * لاسماءَ في النافذة* كانت عيناه تلمعان،محمرّتان وتشعان خوفا وقلقا،الرمشات تتوالى؛ كأن الدافع لها عصب مجنون لا يتوقف أبدا، وشريط المَشَاهد داخل خلايا رأسه
؛ يبدأ من نقطة ثم يعود وينتهي فيها، زحام من المَشَاهد يتصدرها المشهد الأخير، الآن هو مشهد أول،خربة وقمامة وكائن جميل تتكدس تحته القمامة. بعينيه القلقتين ينتظر ما يقوله ضابط التحقيق، والأسئلة وما تَلِدُ من أجوبة تكمن في الزوايا المعتمة؛ مرتبكا بكلماته التي تشبه الرذاذ..مرة أولى في الوقوف هكذا..ومرة أولى في قلقٍ هو الأول في شريط حياته كلها. -"سيدي لم أفعل شيء..صدّق..ني.. سي..دي.. لم..". هكذا هي الجملة الأخيرة..فمه أُطبق مع تهدّج الحنجرة..الكلمة لم تخرج ليس عن قصد؛أبتعلتها حنجرته..أبتلعها خوفه..أنفاس صدره المرتفعة والهابطة تشي بخوفه..الخوف من شيء ما..أو من شيء لم يقمْ به كما يدعي هو بالطبع ،أو من كل شيء سيترتب على اللاشيء الذي لم يقم به،ولم يكن طبعه هكذا طيلة عمره القصير، طفولة وعي متقدم ووعي طفولي يبحث في الأشياء وتسمياتها، تداعيات ما تؤول إليه تسمية حدثٍ ما..كل حدث، لم يصدق حتى هو أنه هكذا، لكنه هكذا رغم أنه ترك ثالثه المتوسط قبل سنوات ثلاث،ما قبل الثلاث وما بعدها قلبه متفتح بالخواطر، الرؤية لديه خيال وضباب، لم يغادر الرؤية هذه حتى حينما التحق بالطرقات وأرصفتها ؛ليصبحا صديقين يتبادلان الكراهية وليس الحب,الأرصفة تحصد من النفس ما تشاء إذا شاء صاحبها..لكنها لم تحصد من روح أو قلب هشام شيئا..يدّعي ذلك دائما..يدعي ذلك لزوج أمه والتي في زواجها الثالث قد أبقته معها رغم ضراوة الزوج..ضراوته و سكره وتهالكه يدفع بهشام إلى الأرصفة؛طاويا يده بضمادكاذب,مبتورة ومضمومة إلى صدره ،عاكفا قدمه الأيسر قليلا،مع ثوبٍ رثّ متهدل الأزرار. ما تمْنُّ عليه الأرصفة صباحا يكون قوتا في البيت مساءً..وينتظره أخوان صغيران . الرصيف لم يسرق نباهة ووداعة هذا الجندي الباسل الذي لم يقرر دخول حربه بنفسه. " أنا محارب صغير وهذه معركتي،لكني لا أعرف كيف أكملها أو كيف ستنتهي،أشعرإني أسيرٌ ومحارب في آن معاً، حرب أجهل خططها وأسلحتها لكنني أخوضها وهذا قدري.. وقدرُ .. وقدرُ.." وهنا يتوقف هشام عن السرد ،أيّ قدر آخر ،قدر مَن ؟ "أبي لفظته الحرب ، حتى الجثمان لم يعد لنا،وأنا الفظ أنفاسي في حرب أخرى،كلا الحربين لا شأن لنا بها ،لا ناقة لنا فيها ولا جمل وفي كل الحربين أنا وأبي خاسران." -قدرَ مَنْ قصدتَ يا هشام؟ ردَّ ضابط التحقيق متجاوزا مخلفات الحرب من الأباء والأبناء. كان لا بد من شيء ما أن يحدث ،ثمة شىء داخله أشعره بذلك. _ماذا قالت حواسك يا هشام؟ "كان قدري..وقدرها." ثم أطرق برأسه،زمّ شفتيه، ترقرقتْ دمعته ،مسح جبهته بيده اليمنى . في ساحة واحدة لكراج السيارات؛أحد طرفي مدخل الكراج كان لهُ ،والطرف ألأخر لها.في الثالثة عشر من عمرها، هي الأخرى قد غادرت الدراسة كما غادرت وغادرها طعمُ الحياة.منذ السادسة صباحا حتى السادسة مساء؛طاستها البيضاء فوق قطعة قماش سوداء، ليلى،.. ليلى تتسول في مدخل المرآب، وثمة عمل ترفض الشروع به في جوف الليل، تكره الليل، وكانت قد كرهت النهار،لها أبّ راحل إلى بلاد بعيدة ولها أمرأة عفنةالضمير. للتسول كراهيتهُ ومع هشام تتشابه المأساة وحبٌ في السطرالأول من الأيام، بداية عشق أخرس. أحقا هذا؟! لم يصدّق ضابط التحقيق ذلك..لا أحد سيصدّق. -"كان سيكون الليل قاتلا لها إن لم....". صمتَ ،حدق في الأرض أسفل قدميه المتربتي،و ذاكرته تقدح. _عليك أن تساعدني يا هشام . _كيف أستطيع.. وأن فعلتها ماذا سأكون؟ _أُقْسِمُ عليك أن تفعل ذلك. فشلا في المحاولة الأولى في خربة خلف المرآب،في اليوم الثاني أنجزا فشلاً آخرا؛خلّفا جرحاً في العنق وجرحا قرب شريان الرسغ. كان مترددا ولم تكن هي كذلك. ليلى كانت تخشى قدوم تلك الليلة.. ليلُها موتٌ كان سيكون أكثر قذارة وقسوة من نهارها. أخيرا كان في نصف قناعته. -"ليلى هل أنت واثقة مما تفعلين" ؟ في المحاولة الأخيرة؛ كانت قمامة الخربة كوسادة أو منصة موت عالية..وثمة قطعة حديد ناتئة، وسلك يتدلى من البناء المهجور ،وعلبة من صفيح التنك،فوق القمامة لتعطي أرتفاعا أقرب لحديد الخلاص..منصة غير جديرة بأحتفالية الموت، كما أن الحياة قمامة غير جديرة بليلى أن تكون منها.. ضُغِطتْ الحنجرة..خيط من البصاق طار من فمها..بعضه سقط على الصفيح وبعضه على القمامة. صمتَ ضابط التحقيق، أحنى رأسه على نجمته في كتفه الأيمن ،أبهامه الأيسر يدق بهدوء فوق منضدته كأنها موسيقى جنائزية..تَكسّرَ العزف والهدوء الجنائزي عندما هبت ريح عبر نافذة غرفة التحقيق ..خشخشة لحركة الستائر القرمزية مع دمعتين تنحدران من عيني هشام الحمراوين..عيناه عبر نافذة التحقيق راحت تصطدم بالسماء و ثمة غيمة داكنة أحتلت فضاء النافذة . حميد محمد الهاشم/العراق * فائزة بالمركز الأول / أبريل 2023

تعليقات

المشاركات الشائعة