عودة مهاجر: بقلم عبده داود

عودة المهاجر قصة من نبض الحياة عادت عمتي من الأرجنتين في ثمانينيات القرن الماضي، بعد أكثر من ستين عاما في الغربة. آنذاك هاجرت لتتزوج خطيبها الذي هاجر قبلها... لم نكن نعرف عمتي اطلاقا، لكن كنا نعرف بعض أخبارها وأخبار عائلتها من الرسائل التي كانت تتبادلها مع أبي أحياناً... قمنا بواجب الضيافة بأكمل ما أمكنا، ولائم، واستقبالات، وكل ما أمكننا فعله لإسعادها والقيام بواجب يليق بواجب الضيافة حسب امكانياتنا المتوفرة. الحقيقة هي لم تتعرف على أغلب اصدقائها القدامى الذين لا يزال بعضهم على قيد الحياة، يعيشون في النبك ولم يهاجروا آنذاك كما فعل الكثيرون من أهالينا، لكنها كانت سعيدة جداً باستعادة تلك الذكريات، التي استعادتها وذكّرها بها زملاؤها القدامى، ومنهم من صرح لها بحب كان قد أخفاه عنها قبل سفرها لعلمه بأنها كانت مخطوبة... في جلسة عائلية مسائية، في صحن الدار نحتسي القهوة، سألت عمتي: كيف ترين البلد بعد غيابك كل تلك السنين الطويلة؟ ابتسمت عمتي وقالت: لا أدري يا عمتي المقارنة صعبة، حياتنا كانت بسيطة. لم يكن عندنا تلفزيونات ولا راديوهات ولا هواتف جوالة... ولا برادات ولا غسالات ولا حتى كهرباء... بيوتنا كنا نبنيها بأنفسنا من بلوك اللبن الترابي، وحياتنا كانت سهلة...بينما أنتم اليوم، ما شاء الله حضارة... حينها، كانت همومنا بسيطة، همنا الوحيد في الصيف هو تأمين احتياجاتنا الشتوية من المؤن الغذائية، الطحين والبرغل والدبس وخلافه. وأهم من هذا كله هو تأمين الحطب من أجل التدفئة والطبخ والتنور، كما تعرف بلدتنا باردة جدا في الشتاء، آنذاك لم يكن هناك محروقات في بلدتنا. فكان تأمين الحطب من أشد الضرورات. كنا نجمع الجرزون (الجرزون هو فروع كرمة العنب بعد كساح الجفنات) ونجمع اليابس من شجر المشمش والجوز والحور، المتوفر في بلدتنا لنستخدمه في الطبخ والتنور والتدفئة والكانونة... سألت باستغراب الكانونة؟ الكانونة؟ وما هي الكانونة؟ ضحكت عمتي وابتسمت ابتسامة عريضة وتنهدت وكأنها تذكرت أمرا كبيرا في حياتها، وقالت: "الكانونة يا عمتي كانت أجمل ما في حياتنا" صديقتنا في ليالي الشتاء الباردة، الكانونة هي حكاية شتائنا وبهجته. هي عبارة عن طاولة غالباً مستديرة الشكل، قطرها يزيد عن المتر وارتفاعها بحدود النصف متر، كانت توضع في منتصف الغرفة، ويوضع المنقل المليء بالجمر الخامد تحتها. ثم تغطى الكانونة بغطاء سميك كبير كاف لنغطي به أرجلنا المدودة تحت الطاولة إلى قرب المنقل. ثم نغطي باقي اجسامنا ببطانيات أو حرامات صوفية. تقينا شر البارد في ضيعتنا شديدة البرودة... كانت تجهيزات بيوتنا، مفارش نصنعها من الخيش المحشو بالقش، نواتج البيادر، سنابل القمح المقطع تحت أحجار النوارج... نمد تلك المفارش بجوانب جدران الغرفة، ونضع فوقها مساند مصنوعة بذات الطريقة، ثم نمد فوقها وعلى كامل أرضية الغرفة البسط والسجاد التي كانوا يصنعونها من الأوبار الصوفية الملونة المغزولة والمستحضرة من شعر الماعز أو الخراف أو الجمال... في المساء والسهرة تجتمع العائلة، أهل البيت وغالبا يحضر زوار من الجيران والأصدقاء من أجل تمضية السهرة، وكم كان يحلو السهر مع الأصدقاء. يجلس أغلبنا على المفارش الممدودة ونمد ارجلنا تحت الطاولة لنستدفئ بحرارة موقد الجمر... تحت طاولة الكانونة... عادة كانوا يجملون الليل بالأطعمة اللذيذة زبيب وتين مجفف وجوز ولوز وقضامه وموالح وما شابه ذلك وكانت الأصناف تتنوع تتزايد أو تتناقص حسب نوعية الضيوف الوافدين إلى السهرة... وتدور أحاديث أغلبها للتسلية والضحك وشيئا من النميمة... أجمل السهرات كانت عندما كان يتواجد بين الموجودين شخص يجيد سرد الحكايات الطويلة – نلقبه بالحكواتي. والحكواتي الشاطر يجذب انتباه الحاضرين في البيت وتصبح آذانهم وعيونهم وكل حواسهم مشدودة مع شخصيات الرواية.... كنا نتحمس مع الشخصيات، ونتفاعل مع الأحداث، نتصور الشخوص والحوادث في مخيلاتنا. وكان الحكواتي الشاطر يزيد ويطيل ويشعب الحوادث إلى أن يقف عن سرد القصة في مكان شيق ويقول سنكمل الحكاية في الغد... وكنا نصيح: أكمل الحكاية أكمل. وغالبا لا يفعل. وكنا نحن نستعيد أحداث الرواية. ونعلق عليها، ونتحمس لشخوصها، منتظرين عودة المساء التالي حتى يأتي الحكواتي ونعود إلى الكانونة والسهرية وإلى حكاياتنا التي لا تزال تضحكني... صمتت عمتي عن الكلام، وقالت الغربة عجزت أن تمحو تلك الذكريات من فكري، كانت تعيش معي كل أيام غربتي... لو خيروني اليوم بين السفر إلى تلك البلاد أو البقاء هنا، لفضلت البقاء هنا، هنا يسكن الحب وتسكن البساطة، والزمن الجميل... بعد ستين عاما عشناها مع أهل تلك البلاد بقينا أغراباً وبقوا هم ينظرون إلينا نظرة الوافدين لبلادهم من عالم آخر...علما بان أولادنا تبوؤا مراكزا هامة في دولتهم، وبقينا غرباء مواطنين درجة ثانية... كتب القصة: عبده داود آذار 2023

تعليقات

المشاركات الشائعة