حمار الفتى ريسان: بقلم حميد محمد الهاشم

" حمار الفتى ريسان " مرّ يومان، وهو غارق في صمته،ولم يحتفل مثلما احتفلوا به،عودته الصامتة والميمونة صدمت أمه في نهاية اليومين، حين باغتها قائلا: " أما أن أقتله..أو ربما أحضنه وأقبّله..لكن أين أجده..؟ أماه أين أجده؟." ثم ألتفتَ نحو الأب الذي غزا لحيته ورأسه الشيب "أبي أين أجده؟" لكن الأب أخذته الدمعة واللحظة هذه بعيدا. قاطرات من الأوجاع. كان أحدهم يقطع غرفة الخوف جيئة وذهابا،من بداية مكتبه حتى الجدار المقابل،قلقا ،لكن أبتسامة تطفو بين الفينة والأخرى على شفتيه المغطيتين بشارب غليظ ،قلقا كما الشيخ الذي ينظر إليه ، إلى قدميه بحذائه الأحمر، الملمع جيدا،كأنه يحسب خطواته،كلاهما قلقان، غير إنهما يفترقان في الأبتسامة الغامضة على شارب الضابط ، والحيرة التي تطفو على ملامح الشيخ ،حيرته تكاد تتحول هي الأخرى إلى إبتسامة، بيد إنها إبتسامةخائفة وساخرة ،الشيخ يكاد يخنقها، بل إنه فعلا يخنقها ،فمن يدري ربما تكون ذنبا يضاف إلى الجريمة التي جاءت به إلى هنا؛ حيث مكتب تحقيق الأمن. الضابط لكونه وحده مع هذا الشيخ؛ فأنه أحيانا يطلق العنان لأبتسامته بلا خوف،الغريب أن الشيخ هو الذي يقطع هذا الغموض ، هذا الأبتسام ،هذا المجيء والرواح ،هدوء العاصفة هذا، _سيدي مثلما قلت لك صدقني،وأقُسمُ على ذلك، وهذه كل أوراقهِ أمامك. زمَّ على براطمه الضابط ،وهو يجيب وكأنه يذبح الكلمات بأسنانه _أسمع..ولدك هذا.. قاطعه الأب بلهفة يائسة. _ سيدي أوراقهُ أمامك ،وأسمه الحقيقي ريسان، وحماره الذي نحّمل عليه عُرِفَ بأسمه. _أنت وولدك وحماره جميعكم متهمون، وأوراقكم أصبحت عند جهة أعلى وسَيُبْتُّ بها . هكذا ردّ الضابط عليه مستعينا بسبابته، ولم تقطع توسلات الشيخ خطواته. في الخط الأمامي لجبهة الحرب ، كان ريسان يقبع ببندقيته ،ودون حماره، تحت أكياس الساتر الترابي ،فرِحتْ الأم وأخواته الثلاثة بالقرار الجديد لقضية الحمار ،والتي اشتهرت في محلتهم ،ليس لأن ريسان أصبح جنديا باسلا يحمي الوطن من الأعداء المحتملين ،وغير المحتملين، وإنما كون ذلك كان بديلا عن قرار إعدامه الذي أُتُخِذَ أولاً،ثم الرحمة الألهية، أقصد الرئاسيه،يُبْعَثُ بريسبان إلى الساتر الأمامي، وها هو يقضي عقوبته دفاعا عن وطنه لكن بسبب حماره اللعين ، حماره الذي لا يُعرَفُ مصيره الأن ،أمّا الأب فسنوات ثلاث كانت تكفي لتأديبه، رغم أنه قد تجاوز الستين عاما..الحمار لا أحد يعرف أين أقُتيدَ، إلى أي جهة مجهولة ، هل أُعتِقلَ الحمار كدليل أدانة..وهو لا ذنب له في كل ما يجري.. حمار وديع كثير الشرود ، وحتى أنه قليل النهيق . صيفا، عند رابعة النهار يأتي به ريسان الذي اشتراه صغيرا إلى ظل ثلاث شجيرات كاليبتوز، أمام بيتهم الصفيحي المتواضع ، وفي الشتاء يتفرج ريسان مع بعض الصِبْية، والمطر ينهمر على شعره الأبيض ، الحق أن حمار ريسان كان جميلاً؛ فبياضه كان ناصعا،تمت سرقته مرة ووجده ريسان ووالده وبعض أفراد العشيرة عندما توزعوا للبحث عنه في أحدى سوق الحمير ،حمدوا الله أنه لم يتحول الى لحم أبقار في السوق ،ومرة سَرحَ لوحده ووقف في منتصف الشارع، كأنه رجل مرور أبيض ، صيوانان طويلان وهوفي شرود لا مثيل له، ومرة اختلط مع قطيع من خمسة حمير، مرّوا من قربه وأدّعى صاحب القطيع إنه لهُ ،فمشاكل الحمار الشغول والجميل كثيرة ،هكذا قرر الأبُّ بداية الأعتقال له ولأبنه وللحمار ، حيث بخط جميل وبلون أحمر كتب هوية الحمار،أحمر بأبيض ،لونان جميلان ،كأنهما يمثلان علم بيت ريسان. مربوطاً تحت الظل في ساعة صيف ،ثمة أنثى لجاره وقد اشتراها من يومين ،تحركت نحو شجرة الكاليبتوز التي أصبحت أغواء للحمير.. لا الشيخ ولا ريسان ولا حتى جاره لهم علاقه بما يفعله الحمير.. ريسان في وجبة غدائه الأخيرة مع بقيه العائله المنكوبة...الجَلَبة تتعالى..هوسة زعاطيط ،بعض المارة يتضاحكون ،ثمه نسوة يضعن طرف الشال بأستحياء على عيونهن ،هرع ريسان تاركا غداء الفاصوليا مع أبيه ،ماذا فعلت يا أبن ريسان ؟! وقف الجميع،الجار وريسان والأبّ على خط شروع واحد..بعض المارة بدأ بقراءة هوية الحمار، حمار مَن؟ ثم يمزمزون ويكملون الطريق ،وبعضهم يهزّ يده،البعض لم ينتبه أصلا ،الحادثة تمرُّ بسلام ،حتى جارهم بالطبع لم يفعل شيء ،فلا حق له أن يفعل أي شيء..فالحمير حمير في الصيف أو في الشتاء، الثالثه فجرا يُطْرَقُ الباب،خوف ورعب ودهشة ،طرقات خوف..ماذا فعل حمار ريسان هذه المرة،كلا ليس الحمار..مفرزة من الأمن ..أُقْتيدَ ريسان والأبّ وحتى الحمار كدليل أدانة. _سيدي ماذا فعل الحمار؟..أنه باب رزقنا لكنه وقح بعض الشيء. نهرَ رجل الأمن الشيخ . _بل ماذا فعلتَ أنتَ وتافهك هذا ؟ _ماذا فعلنا سيدي.!!.حماران وتزاوجا!! حادثة المرور لم ولن تتكرر. _ أنظرماذا كتبتَ على الحمار،حمار الريس! أو كانما برقٌ أصاب الشيخ، وأبنه ذا الخمسة عشر عاما..تلعثمت الكلمات ..أصفر الوجه ..رجفت الشيبات البيض _بل كتبتُ حمار ريسان سيدي! _انظرْ بنفسك؟ ثمة من تلاعب بالأمر ..ثمة من أراد لريسان وأبيه سوء,ربما كان مازحا, وربما هنالك مَن حركته الضغينة؛ ليوقع بالحمار وأصحابه ..ربما سخرية... وقد حذف الألف والنون ليضع حرفا التعريف..شهر..شهران ،وأخبار ريسان أنه سقط في الأسر .. أسير حرب، بسبب حماره، أو من حقد على حماره ،أو من حقد عليه وعلى حماره ..أعوام.. أعوام من الأسر .. الحرب تتوقف ،ثم تمتدُّ ،ثم تتوقف ثم ..ثم.. يعود ريسان . ريسان يعود...يعود...يعود... بعد ماذا ؟الأمر له معنى آخر، وآخر عنده وهو يرى ..ينظر ..يتأمل.. وهو يضع يده على فمه في حافلة العودة الكئيبة، الأسيرةو المليئة بالندوب، والشيب البكر..! ما هذا؟ ما هذا؟ ماذا أرى؟! يومان من الصمت...يومان من التجوال بين الطرقات ، وهو يتمتم يا لكثرة الحمير.. تجوب الساحات ولم يقبض على أحد، رغم اليافطات...حمير الرئيس كثيرة..ولم يُرَسْلُ أحد منها ..أعني أصحابها إلى الجحيم..بل العكس مصابة بالسمنة ،وهي تجوب الشوارع..فماذا فعل بي حماري...حماري الطيب الذي سأقتله أن وجدته ..لا سأحضنه...لا سأقتله..هو من كان السبب ..لكنني مازلت أحبه..لكن ..أو..ربما .. في اليوم الثالث خرج ريسان القادم توا من الأسر ..بحثا عن حماره. إنتهت. *هوسة زعاطيط/ صياح وفوضى أطفال حميد محمد الهاشم/ العراق

تعليقات

المشاركات الشائعة