قطار الشوق: بقلم محمد السر شرف الدين

قطار الشوق نصف سكان القرية يتحلّقون حول عم عكاشة، يحيطونه برعايتهم وعطفهم فهو وحيد بمنزله المتهالك، تلهبه حمّى قاسية بنوبات متعاقبة مع موجات برد وتصبب عرق غزير وصداع كضربات المطارق، سخِرت تلك الأعراض المبهمة والمتداخلة من مهارة أطباء تلك القرية الوادعة التي يُداعب طرف فرعها ضفاف النيل الأزرق، يغلب على عينيه بياض كثيف وإرتجاف بكامل عضلات وجهه عدا شفاهه الجامدة، تهامس الأطباء وقرروا إرساله للخرطوم بأسرع وقت، أينعت بسمة خفيفة على شفتيه أدهشت كل الحضور واستعصت على فهمهم. بعد الإنتهاء من من السباحة بالنيل وفي طريق عودتهم للقرية مرّ الأطفال كالعادة بذلك الكوخ الغامض الذي يمد يديه لمصافحة طريق سكة الحديد، في هذه المرة شاهدوا عم الطاهر وهو يجر بقرته بحبل متين، سالوه بإصرار عن سر هذا الكوخ الفريد الذي يقف بحذاء سكة الحديد منذ فترة، ربط بقرته بشجرة سدر معمّرة وجلس وسطهم تحت ظل الكوخ الضنين، ذكر لهم أن لعكاشة ابن عبقري، نشِط، بار بوالده، توفت والدته وهو بعمر الثالثة، وكان متفوّقاً بدراسته وكذلك يساعد والده بالزراعة وصيد الأسماك وأعمال البناء، احرز درجات مميزة مكنته من الإلتحاق بأعرق واقوى الجامعات بالخرطوم، سار على نهجه بالتفوق والاجتهاد بدراسته الجامعية، لم يلتفت لتعرجات السياسة ولم يهز فؤاده تلميحات الغياد فقد كان وسيم الطلعة، ممشوق القوام، وافر الأدب، حسُن الهندام، تخرّج بتقدير إمتياز وهاتف والده وأعلمه بموعد وصول قطاره للقرية، إنتظر الوالد إبنه ولكن لم يكن ضمن الواصلين، إنقبض فؤاده وأخذ يسأل بالهاتف كل من يعرفه بالخرطوم ولكن دون جدوى وهاتفه كان بحالة إغلاق، فصار يحضر للمحطة كل اسبوعين تزامناً مع زمن القطار الدقيق لاستقبال الواصلين علّه يصادف ابنه الوحيد، ومن أجل ذلك بنى ذلك الكوخ فلم يكن هناك محطة مُجهّزة لقلة الركاب بالقرية، وبعد أن ألغت هيئة سكك الحديد تلك الرحلة لعدم الجدوى الإقتصادية مرض عكاشة مرضاً شديداً وقد توفِي فور وصوله الخرطوم وقد أوصى أن يدفن هناك، وكانه يريد معانقة ابنه الذي لا يعلم شئ عن مصيره سوى أنه فُقد هناك، سأله الأطفال : كم أمضى عم عكاشة من وقت بهذا الكوخ في إنتظار ابنه، أجابهم: عشرة أعوام. محمد السر شرف الدين /السودان

تعليقات

المشاركات الشائعة