دموع رصاصة: بقلم فتحي بوصيدة

 ق ق

دموع رصاصة

أوشك الفجر أن يزيح ستار ظلام ليلة خلنا أنّه قد شقّ عليه ذلك، و رحل مستسلما...فقد انتابنا شعور أنّها ليلة أطول من المعتاد...ليلة ضخمة قد استلمت من القرية العجوز كلّ هذيان أفرادها، و عويل نسائها، و بكاء أطفالها...ليلة استنشقت كلّ روائحنا الممزوجة بالرّعب و بالخيانة...

تسلّل النور بصعوبة يخترق دخان بقايا نيران مازالت لم تهدأ بعد...فجر حلّ كظاهرة عجيبة، فجر لأوّل مرّة أتى و لم تأذن له صياح ديكة القرية، ولم ترحّب به تكبيرات المآذن رغم أنّ الصّومعة هي البناية النّاجية من تفجيرات لِلَيلة كاملة...

مازال الدّخان يعبث بالرؤية...أزيز جديد يخترق صمت القرية الرّهيب، مدرّعات التمشيط تتوغّل في الأزقّة تتابع البلدوزر العظيم و هو يزيح ما يعيق تقدّمها من ركام لسنا ندري مكوّناته فركام المباني ليس وحده المتضرّر...

استمرّ التمشيط لأيّام...انهم يبحثون عن الجنس البشري، حتّى بعد الإبادة، هم لا يثقون حتى في أسلحتهم المدمّرة، لا يسلّمون بنتائجها، لأنّهم ظالمون، لا يُغادرهم الشكُّ ...

قبض و اخلاء سبيل... لم يسلم منهم كائن...

بدوره لا يثق في تحركاتهم رغم هدوئها، كان يعتقد أنّه أمّن نفسه و عائلته من المداهمة...حتّى و إن كان بريئا فسيلقىى أشدّ أنواع الإهانات والتنكيل...

فالحرب و عساكرها لا يعترفون بالانسان، هم مجعولون لتدميره و إبادته، و إلاّ ما معنى أن يُصنع الدّيناميت لتفتيت الصّخور أن يصبح مفتّتا للبشريّة..

دخلوا عليهم مخبأهم...كانوا أشبه للتّماثيل و قد غلّفهم غبار الانفجارات التي نجوا منها بأعجوبة...

وقع أقدام أوحى بكثرتهم، و بسرعة تحرّكهم، زلزل أمنهم المؤقّت، و سرى فيهم الخوف، واستبدّ بهم على إثر طلقات في الهواء.. انكمشوا إلى بقايا جدران...لكنّ ذلك لم يخفيهم عن رِوسهم الضّخمة التي حشت خوذاتهم المتّصلة بخراطيم لفّت أعناقهم و كأنّهم مخلوقات فضائيّة...

صرخ أحدهم بصوت ضخم مرعب، وقد زادت تلك الخوذة في تضخيمه:

هاي...أنت... تقدّم...قرفص...

همّ أن ينسحب من بين أفراد أسرته، تمسّكَتْ بسبّابَتِه ابنته الصغيرة، تردّ د:

بابا...بابا... و بدأ ت العبارة تغيب بين شهقاتها فيغمرها البكاء... أراد أن يهدّئها، لكنّ الغصّة ملأت حلقه...

حاول أن يتمالك نفسه و تظاهر بالصّلابة،لكنّ طأطأة رأسه فضحت ضعفه و قلّة حيلته. مدّتِ المسكينة بكفّها الصّغير الذي ذهبت بنعومته جروح التشبّث بالحياة، و مسحت ريقا تيبّس على شفتيه همّ أن يضمّها إلى حضنه، لكنّ الرصاصة كانت الأسرع...

كان في أعماقه مسرورا، إذْ فعلت الصّغيرة ما كان قد عجز أعنه هو... تلقّفته بين أحضانها ينزف لتقاسمه روحها... أكثر من ذلك صرخت بأعلى صوتها: "بابا...بابا... يا ظلمة..."

خفّت زوجة إليهما لتشاركهما موكب الطّغيان...ما إن استقرّ رأسه بين كفيها، طلقة ثانية حتى استقرّ خدّها الباكي على صدره، و أسلمت الرّوح ...عندها ابتسم لقد نزع الخوف الجاثم على صدره و استقبل حضنه شيئا كان يريده...

عاودت البنت الصّراخ، وكان أشدّ هذه المرّة، إذ دوّى بين أرجاء القرية كلها ففزع إليهم سكّانها من كلّ صوب، ولم يكفّ صدى الصّرخة حتّى سرى إلى إليهم واخترق أزياءهم العسكرية فتراجعوا مذعورين...

مسحت الطّبيبة دموعا غمرت الرّصاصة التي كانت برقبتها عندما مسكها والدها وسألها أتذكرين ياابنتي؟ هذه التي كانت في احشائي ! ... ضحكت و دفعت بكرسيّه المتحرّك ليتّجها إلى المقبرة حيث ترقد الأمّ بسلام...



تعليقات

المشاركات الشائعة