يوم آخر لحمدان: بقلم حميد محمد الهاشم

 يومٌ آخر لحمدان "


 سدّةّ ّترابية ترتفع متراً تقريبا، خلفها تلك الحضيرة،أمامها أرض جرداء إلاّ ممن يسكنها من الأشواك المتناثرة هنا وهناك. ثمة أشواك ثلاث ترسم مثلثاً ، شوكة رأس المثلث أكبر  من أختيها الآخرتين.

يعبر الجندي حمدان ذلك الشريط  الترابي بتؤدة، وبخطى متثاقلة ، تاركاً

خلفه سريتهُ، حطّتْ تواً منذ ساعتين،  ,في طور إعادة تأهيل، أُعيدت  إلى الخلف ،بعد معركتها الخاسرة الأخيرة،  جنديّنا الباحث عن شيء ؛  يرسل نظراتة بين الأشواك ، اصطاد المكان الذي كان يبحث عنه ، الآن يقف في منتصف المثلث الشوكي، تراءى له أن تلك المساحة ستكون ملجأً آمناً لهُ في اللحظة تلك. التفتَ يمينا وشمالا ، لكي يطمئن أكثر؛ ألتفت  مرتين، لكنه لم يكن متوجسا من جهة الإمام, حيث العدو؛ ينتشر أمامه على بعد آلاف الأمتار تقريبا.

حمدان يريد أن يقوم بمهمتهِ, وكي  ينفذّها على أتمِّ وجه, وهو الذي كان يخشى من أفراد حضيىرته أن يروا فعاليته أكثر مما كان يخشى عدوه البعيد؛جعل الشوكة الأكبر حماية لظهره، متجنباً رؤية الحضيرة ،وليس  رؤية عدوه  القابع بعد  عشرين كيلو متر أمامه.

كان مغموماً في عبوره الرابية ، في وقوفه المثلثي ، في التفاتاته المريبة.

بالطبع، يكون جنديّنا الباسل قلقا مغموما؛  أذ لا شيء يدعو للبهجة في حياته ،التي اختصر خلاصتها ،التحاقه بالجيش منذ خمسِ سنوات أجباربا.

خمس سنوات  يعتمر الخوذة، وها هي الآن على رأسه، بينما يضع بندقيته على أحد الشوكتين أمامه، فوهّتها بأتجاههِ وأتجاه حضيرته.

الى حد اللحظة لم يشارك أحدٌ حمدان في مشروعه، كما يظن ،لكنه مخطيء كعادته في مشاريعه.

عند الجهة المقابلة، يدخل أحدهم بؤبؤَ عينه في عدسة البندقية_ القناص.

تنقسم اللحظة على أثنين.

القناص وحمدان،الذي يهمُّ بفعل شيء ما.

بعد أن أنهى التفاتاته الباحثة عن الأمان، وطَرْحِ البندقية في قيلولة قصيرة، يفتحُ حزام بنطاله الخاكي اللون، يسلتُ البنطلون مع سرواله الداخلي دفعة واحدة، ثم يقعي باركاً ، مقرفصاً.

رمشَ القناص ثلاث رمشات، رفيق له يلتحق معه ؛ليكون الرجل الثالث في المشهد, لكنه لم يُشارك في الرؤية ،يسمعُ ويتساءل فقط.

- ماذا.. ماذا رأيت؟

،- أش..

 مع ابتسامة تعلو فمه الذي يعلوها شارب خفيف.

بأتجاه فوهّة البندقية، وهي في قيلولتها، يهطل شلال من الخليط الأصفر السائل ،مطعماً ببعض البذور.

صاحبنا المسكين مصاب بالأسهال.

ضَحَكَ القناص محاولاً خنقَ ضحكته.

الأسهال أحتلّ مساحة أوسع ،شكلا أميبياً ببروزات غير ثابتة.

ما زالت القهقهة المخنوقة  ترصد المشهد.

- ها..ماذا ترى؟ ألآ تخبرني؟

مع أبتسامة محيّرة ،يجيبُ القناص.

- هه هه .. إنه يتغوط...عدونا مصاب بالأسهال.

- ماذا تقول! وما دَخْلَنا نحن بغائطه، أنه صيد سهل..والحرب سجال..وهي خراء في خراء.

أجابهُ رفيقهُ وهو كازّاً على أسنانه.

نهض حمدان من فوق بقعته الآسنة ؛ حيث توسعت ؛ وصولاً إلى بسطال قدمه ، أعاد القرفصاء مرة أخرى؛  ليشّيد جوارها بقعة أخرى .

القناص بين عين تراقب ،ورصاصة جاهزة ،وحيرة مُنتظِرة

انتظار مبرّر و غير مبرّر.

- ماذا ؟ قلْ لي..ماذا يفعل ؟ متى تقنصه؟

- سأدّعهُ ينظف أمعائه..ثم أنظّفُ الحياة منه..ههه أو أنظّفهُ من الحياة.

- أسمعْ ..يجب أن لا يكون أسهاله سببا لخيانة شرفنا العسكري..لا يعنينا بولهُ أو تبرزه.

تفرّس القناصُ في منظارهِ جيدا.

 ثم تمتمَ:

- وجومٌ على ملامح وجهه، هذا الجندي لديه مشاكل أخرى غير معضلة الأمعاء.

تنحنحَ حمدان عن فعاليته الثانية قليلاً ، يسحبُ منديلا أصفراً من جيبهِ ،  المنديل لتنظيف بندقيته،  لكنه مسح به وجهه ،و زاوية عينيه، ثم مسح به مقعده.

لأن سريته نزلت تواً ؛  فليس لديهم غير قليل من ماء الشرب ،وللشرب فقط؛ فترطيب ُالأفواه أكثر أهمية من  مسح المخارج .

ينهض وهو يمسح عينه بكُمِّ قميصه، ،خيالات خطيبته التي هجرته عند السنة الأولى من التحاقه بالجيش لا تفارقه حتى مع البراز ،ثم أمّهُ التي غادرتْ ْ إلى السماء قبل عام ، حبيبته الأخرى التي تزوجت قبل شهر ، وحده إلاّ مِن أبٍّ مُقْعَد ،لا أحد ينتظره في الوطن ، والوطن ينتظر منه أن يقاتل بأسهال أو بغير أسهال. 

متاعب القولون المجنون كما يسميه، لم تتخلَ عنه منذ خسارة حبيبته الأخيرة ، هي في عسلها وهو في أسهاله ، وأحيانا يبحث عن عزلة كي يطلق دمعةً أو دمعتين؛  ليمسحهما بكّم قميصه دون أن يراه أحد، أو بالمنديل الأصفر ذي الأستخدامات الثلاث.

- والآن ألآ تقتله؟ ماذا حصلَ لك؟

- لا أصدّق ،  هل أوقفُ حياتهُ وأوقفُ أسهاله معه...لم أرَ أحداً من قبل يبكي ويخرّي في نفس الوقت.

نهض حمدان ، وعين المنظار في جبينه، أعاد بنطاله،  حمل بندقيته، عدّل خوذته، ورجع يعبر الأشواك ثم الشريط الترابي ، والقنّاص يتبعه، وعيناه ومقعده  ما زالا نديّان.

.

حميد محمد الهاشم/ العراق

* فائزة ثانيا في منتدى المشكاة يناير2023


تعليقات

المشاركات الشائعة