الاجتماع: بقلم رعد محمد المخلف

 قصة قصيرة


الاجتماع  


قرّر رجال حيّنا أن يجتمعوا ويناقشوا أمر انقطاع التيار الكهربائي بسبب الأزمة التي تمر بها البلاد، في المسجد بعد صلاة العشاء مباشرة. 

 بعد اتمام الصلاة، التفتَ الإمام الى جوقة المُصلّين وهو متربّع يتمتم بعبارات لم يفهمها أحد وهو مغمض العينين، ثم فتحهما وأخذ ينظر إلى الجميع وقد قطّب ما بين حاجبيه زيادة في التُقى والثقة بالنفس، وكأنه يُجري تفقداً اِسميّا للحضور حيث بدأ بالصف الأول للمُصلّين ، وهم نخبة الحيّ ورجالها الصناديد، فمن اليمين رأى ابا زياد صاحب الحانوت بجلبابه الأبيض النقي والقبعة البيضاء الصغيرة التي تتوسط رأسه،.مغمض العينين من شدة الورع، معطيًا للحاضرين هيئة التقيّ النقيّ علّه ينسيهم ما يفعله معهم كل يوم من احتكار للسلع والتلاعب بالأسعار، وعلّهم يغفرون له كيلة الميزان الذي يجعل من نصف الأوقيّة أوقيّة، وأمّا الذي يليه فكان (ابو حمدي) الخبّاز الذي يبيع نصف المخصّص لفرنه من الطحين ويعجن النصف الآخر ويبيعه للناس نصف ناضج، وقد أقسم يمينًا مغلَّظًا لَإنْ ذهبتَ واشتكيتَ ما يفعله للجهات المختصّة،أن لن تأخذ نصيبك من الخبز  اليوميّ ولو تمسّكتَ بتلابيب الكعبة. وأمّا الذي بجانبه فكان الورع الصالح ابن الصالح قدّس الله سره، أبا محمود الجزّار، الذي تدلّى كرشه أمامه نصف متر، وقد أمسك بمسباح يحرّك حبيباته بوساطة الإبهام والسبابة، متصنّعًا التسبيح بحركات شفاهه، وأنا على يقين أنه كان يكرّر في نفسه: ( متى ستصل شاحنةُ لحمِ العجول والحمير ؟)،(كيف سنخلط اللحم بينهما دون أن ينتبه أحد؟ أحدٌ… .أحدٌ… )، وأمّا الذي جاوره فكان رفيع الدين والتديّن، أبا علي الحلّاق خفيف اليد، فضفاض الوجدان، غير المبدّل لشفرته لأيّ إنسان، فشعاره الوطني الأوحد هو( شعب واحد ، شفرة حلاقة واحدة)… ..

انتهى الإمام تقريبًا من إحصاء الحضور إلا أنه نظر إلى أحدهم شذرًا ، فمكانه ليس في الصف الأوّل، مكانه الصّف الثاني من المصلّين على أحسن تقدير، فهو بائع علب الكبريت والعلكة المتجوّل في الأحياء.  لم ينتبه البائع لنظرات الإمام كونه كان شاردًا بهموم الحياة. 


قال الإمام بصوت جهوري : إخوتي وأخواتي ـ بسملَ وحمدَلَ وحوقَلَ دهراً ـ نجتمع اليوم بتوفيق من الله عزّ وجلّ لنناقش أمرًاً هامًا جدًا وهو… ...


قطع حديث الإمام أصوات جَلَبة من الصفوف الخلفية للمصلّين، وما أنْ نظر الإمام إلى المؤخِّرة حتى فهم السبب وهو وصول الفارس المغوار الذي لا يُشَقُّ له غبار، أبي فادي المختار، هذا المتنفّع من الختم الحكومي الذي استأمنته الدولة عليه لخدمة الناس، لكنّه حلف بأسماء الله الحسنى جميعها والتي يحب الله أن يسمع تضرع العبد له بها، أنه سيأخذ ضعفي ثمن الطابع لأي وثيقة رسمية مهما كانت الأسباب ومهما كان الشخص المراجع له فقيرًا، وحلف أعظم أيمانه أنه لن يمنح وثيقة ( حسن السلوك) * لأي رجل قد يتجرأ ويشتكيه للسلطات. 


وقف له الجميع هناك في الخلف مما تداعى له سائر الموجودين، وأخذتْ صفوف المصلّين تنفلق أمام الفارس المختار، وهو يتقدم نحو الصّف الأوّل بخُيلاء لم يعهدها إلا قياصرة الرومان وأباطرة بيزنطا. 


صرخ الحلّاق مرحّبًا:  أهلًا وسهلًا بأبي فادي، أقسمتُ عليك بالله أن تجلس مكاني !!… وصرخ الجزّار معاندًا الحلّاقَ : أقسم بطلاق زوجاتي الأربع، لا يجلس إلّا مكاني ..!


نظر الإمام الى بائع الكبريت وأومأ له بعينه أنْ اتركً مكانك الذي ليس لك أصلًا، تراجع البائع القُهقرة؛ واحتل مكانه فارسُ الحَيِّ والدِيار.


جلس الجميع وعاد الإمام إلى خطبته العصماء، بعد أن رحّب بالمختار المتأخر وبعد البسملة والحمدلة والحوقلة قال : إخوتي و أخواتي اللّواتي يجلسن في الطابق العلوي، واللواتي آثرن القدوم إلى المسجد لحضور اجتماعنا الهام هذا؛ فهُنَّ المستفيدات بالدرجة الاولى من تأمين مولِّد كهربائي للحيّ ، ونحن إذ نجتمع اليوم… ..


قطع حديث الإمام أصوات النساء من الأعلى وصرخات اختلطت بعضها ببعض وهنا صرخ الإمام وصاح وراءه الرجال :

 ـ ما الذي حدث ؟!!!.

جاء الرّد جماعيًّا : أم محمود……! واتاها الطَلْقُ… 


هرع أبو محمود الجزّار خارجًا من المسجد وقد سحق بطريقه إثنين من الرجال وعطب آخر .


مرّ الوقت وأخذتْ شُعلات قناديل (زيت الكاز) بالأفول، وأضحتْ الرؤية شبه معدومة وعندها عاد صوت الإمام يجلجل من جديد بعد أن بسملَ وحمدلَ وحوقلَ عقدًا  من الزمن كعادته ليقول : إخوتي وأخواتي اللواتي تسببن بضياع الوقت……  نظرًا لحلول الليل ومداهمة العتمةُ لنا، والتي باتت تسري في الأرجاء بسبب نقص ( زيت الكاز) والذي اجتمعنا آلاف المرات لتنظيم جمع التبرعات لتأمينه ولم نُوفَّق حتى تاريخه……  أرى تأجيل الاجتماع إلى بعد صلاة الفجر، لكوننا لن نحتاج الى قناديل للإنارة… .


✍️ رعد محمد المخلف.  سوريا


تعليقات

المشاركات الشائعة