خلف أسوار الطحين: بقلم حميد محمد الهاشم

 (خلف أسوارالطحين) 


متثاقلا يجرّ قدميه، ينوء عموده الفقري تحت وطأة وغطرسة كيس (گونية) من الطحين الأسمر، والمندس بين ذراتة كثير من مهروس الخشب،_قصة انحدار في مهروس الضمير_، يحملها شابّ أسمر اللون،في الخامسة والعشرين،حنطي اللون، كعمق سلالة أجداده وليس كعمق ذلك الجريش القمحي الذي يعتلي منصة ظهره، ظهره المنحني الآن، كما يعتلي منصة ملامح وجهه وقلق عينيه، كان إثنان قد طُرِدا قبله،فشلا في حمل هذه اللحظات الثقيلة المتخمة بشبعٍ فارغ وببشعٍ ممتليء، بخطىً متعبة يجرّ قدميه،أكياس الطحين لا تقبل المزاح، مثل أولئك الجالسين حول طاولة مستديرة،نصف مترٍ يباعد بين أحدهم والآخر،كبيرهم ، تنبت بعض الزغيبات القليلة المتفرقة في مسطحهِ الأبيض الذي يحتل ثلثي جمجمتهِ كلوامس  الخنفساء، أما شريكاه، فلإحدهم نظارة سميكة دائرية تغطي عينيه، والتي تبدو إحداهما عاطلة عن مساعدة أختها،(  عورة).. أما الآخر فبين الفينةوالأخرى يغطي فمه المفتوح بظهر كفه عند تثاؤبه المكرر،نعاس برائحة الطحين ،كسولاً ويبدو عليه الجوع،الثلاثة بربطات عنق مختلفة اللون،لاتنقصهم دقَة مايرَوَن ولا خباثة النفس حين تقرر شيئا ما ،مثلُ طَردِ ذلكما الرجلين حتى قبل أن يُكملا الطريق مابين زحام الأكياس وزحام النظرات ،وخذلان العمود الفقري،

طُرِدا الأثنان،وعلى الحمّال الجديد أن لا يكون ثالثهم؛  وهو يرى قسوة كل شيء في  مسرح الحياة الكبير ،والمتبرعم منه شقاءه الصغير هذا،ستة عيون تراقب.. أوه..أعني خمسة.

بقعٌ من الطحين تتناثر هنا وهناك، فوق تلك البلاطات السوداء والببضاء، حِمْلٌ مُتْعِبٌ ومُتَعَبٌ ،قوس فقرات  يئنُ تحتهُ.. فشلٌ يتكرر إثر فشلٍ إلاّ استثناءً لهذا أو لذاك، قرر حمّالنا أن يكون هو الآخر استثناء، ينجح مع الكيس اللعين الأول واللعين الثاني، أعاد الجولة وعليه أن يهزم اللعين الآخر، تَعَبٌ ينتظر أوكسجين النجاح... ثيابهُ متهدلة وبأزرار مفتوحة؛  فتظهر من تحت قميصه المرشوش بالطحين فانليتهُ البيضاء الدِسمة،بقعٌ بيضاء خلفتها گونيتهُ الأولى كجزرٍ تتبعثر على ظهره الرمادي،  مبللة ،كولادات تنضحها مسامات جلده ،مخترقة حاجزين من الثياب، رطبة تُرتسم على سطح قميصه الداكن كأشكال غيم مختلفة.

حسناً...رفعَ الگونية الثالثة.

   انحنى محدودباً متلعثم الخطى،ثمة ثقوب تعلو قمة الكيس اللايلوني لتندلق منها عيون من الطحين كشلالات صغيرة، انحدرت من أسفل الرأس مارة على قوس الفقرات.. بعضها تسربت داخل بنطلونه..توغلت بين حزامه ولباسه الداخلي، والبعض أكمل الطريق حتى حافة البنطلون الأخيرة.

 وعليه إذاً أن يكون أو لايكون، وتلك معظلته الآن في هذا العالم الطحيني، وعليه أن لا يُهَزَم أمام نعمة الله الأولى، والجوع كائن متفتح الأفواه، وهو لن ينسى ذلك، وعليه أيضا أن يهزم  الفرسان الثلاثة، رجل الزغيبات والأعور والمتثائب، أنفاس النجاح تلهث، وعليه أن ينجح شاءت العصابة الثلاثية ام أبت

ماذا يفعل..؟!

قرر أن يبتكر، لمَِ لا.. لِمَ لا ؟!

التفت إليهم قائلا:

-ألم أُقل لكم أيها الحمّالون الكسالى أن لا تقفوا في طريقي؛ وانا أقود هذه الأكياس، لِمَ لا تفسحوا لي الطريق أيها الرعاع!!، وقذائف كلمات  تطايرت من فمه المليء بالزبد الأبيض المصفر، والمتجمد بعضه في زوايا ما بين شفتيه الذابلتين.

تحملقتْ العيون عليه،فغرت الأفواه حتى بانت  طواحنٌ أسنانهم، وعليه أن يذهب بعيداً في إبتكاره ولم يمهلهم حتى الردّ، وسط ذهول واستغراب لا حد له،قام الحَمّال الباسل برفس  الطاولة برجله،ثم وبكل قوته ألقى عليهم رشاش عبقريته؛  گونية الطحين !!

انقلب الفرسان الثلاثة على ظهورهم...لم تبقَ شتيمة إلاّ وانقذفت، وشتائم تلِد شتائمَ أخرى،نهض الثلاثة بتباطأ؛ ينفضون ثيابهم جرّاء الهزة الأرضية هذه. أفواههم لم تنطبق من الشتائم بينما أيديهم تنظف ثيابهم من جنون الرجل. الجنون الذي أُلقيَ عليهم في غفلةمن الزمن !! 

الغبار سيد المكان والزمان !! 

الدهشة امتياز اللحظة بإمتياز!! 

و.. حمّالنا واقف مرفوع الراس.!! 

وسط الغبرة البيضاء القمحية،والتي تتشقق عن ضحكات أشبه بزغاريد خجولة لعرس فقير وعريس أكثر فقراً.

ضحكات وتأوهات أولئك المتقدمين لنيل ذلك المشهد.

القهقهةُ تصل أذيالها، لكن الدهشة ظلت ساخنة ولجنة الأختبار والأختيار لم يكتمل نهوضها بعد، ولا فيض الشتائم قد توقف.

ثم.. يوم. 

يومان.

أعلان..ثم.

 ثلاثة أسابيع.. كان حمّالنا الحنطي اللون و الرؤى.. النجم الاول في مسرحية خلف أسوار والطحين.

................................................... 

* الطحين الأسمر المندس فيه مهروس الخشب كان شائعا آبان الحصار في تسعينيات القرن الماضي.

 * عورة بالعامية/ عوراء  بالفصيح.

*القصة فائزة في مسابقة مجلة القصة القصيرة في مصر

حميد محمد الهاشم/ العراق


تعليقات

المشاركات الشائعة