المستنقع جزء 13: بقلم تيسير مغاصبه

 "المستنقع "

قصة متسلسلة

بقلم:

تيسيرمغاصبه

-١٣-


" قبل الثورة"


كان كمال قد وقف كما لو أن أصابته صاعقة، بعد أن تركه عادل وغادر؛

مال إلى الوراء كلوح الرخام ووقع على الأرض وتحطم ،

لم يبكي أبدا لكنه إستمر بالنظر إلى السقف كعادته عند كل خيبة أمل ،فكان يحدث نفسه "لماذا الأقدار تحاربني ..لماذا تمنعني من إتباع طريق الهداية والصلاح كما تمنع غيري من إتباعها"


*    *    *    *    *    *    *    *    *     *    *    *


في الصباح توجه كمال إلى شقته ليمضي فيها إستراحته دون أن يمر بصديقه ومعلمه عبد الحميد، 

بقي في شقته طوال اليوم ، بقي جالسا بصمت على كنبته في الظلام ،مغلقا هاتفه.

أما عبد الحميد فكان يخوض صولاته وجولاته في الميدان ،وكان يوما تاريخيا بالنسبة له .

كذلك هو يوما مشرقا في تاريخ تلك المدرسة ،

قرع جرس الاصطفاف للإذاعة المدرسية الصباحية ..وقف عبد الحميد بطوله اللافت وهيبة لم يرها أحد منذ تأسيس تلك المدرسة ،

بدأ بث النشيد الوطني..لم يعجبه الاصطفاف ولا الثبات..فأمر بإيقاف النشيد ثم قال آمرا :


-أعد النشيد؟


أعيد بث النشيد بينما كان ينظر إلى الجميع نظرات حادة كما وأنه أمام طوابير عسكرية .

أخبر الجميع بأن الحصة الأولى ستكون هنا في الساحة ،بدأ خطبته بالقاء السلام ،فسمع الرد من جميع الطلبة بلا أي نشاز كما وأنهم جزءا من سيمفونية،

لقد كان الجميع يعلم بأن ذلك المدير خطيرا جدا ؛وهو بطل في المصارعة والملاكمة وتناقلت تلك الأخبار .

قال "في البداية سأوجه كلامي إلى الرجال ..الرجال فقط ..وأنا بطبعي  لاأكلم سوى الرجال ..وأعلم أن بينكم الكثير من الرجال اللذين نفخر بهم"

كان من الذكاء أن يمتدح البعض ،ويحفظ ماء الوجه للبعض الأخر.

وكان أثناء ذلك يأمر كل معلم يصل متأخرا عن الطابور الصباحي بأن ينتظر واقفا  في الكلدور ،

أنهى خطبته ثم أخذ يتجول بين طوابير الطلبة متأملا وجوههم وهو يردد " سمعت أن هنا يوجد القليل جدا من هؤلاء الذين هم عارا على الرجال ..أين هم ..أين هم"

بعد نهاية الدوام عقد اجتماعا للمعلمين وأعطى تعليماته وقراراته وإتخذ إجراءات حاسمة بحق بعض المعلمين ومنها النقل الفوري من المدرسة وإستبدالهم بآخرين معتمدا على معارفه في الوزارة .


*    *    *    *    *    *    *   *    *    *    *    * 


يمر اليوم بطيئا على الجميع ،لكنه لم يكن  أبطأ من يوم كمال الذي أمضاه  على الكنبة ،يغفو ويصحو ،ويغفو ثانية ويعود ويصحو من جديد.

رأى أمامه عادل في نفس ثيابه القديمة ،السروال الأسود القصير والذي يكشف عن سيقانه البيضاء الخالية من الفرو ،والتيشرت ،لم يفهم أي معنى لنظراته هذه المرة ..لأول مرة لم يفهم ماذا تعني تلك النظرات ،إقترب منه بالرغم من أنه قد أغضبه في الليلة الماضية .إلا أنه ظهر أمامه من جديد فرحا ..فتح ذراعيه لعناقه كالعادة ..وقف كمال ..إقترب منه معانقا..لكنه شعر هذه المرة بالاختناق ..حتى عندما أراد كمال تقبيله معتذرا له كانت وجنته شديدة الخشونة كوجنة رجل لم يقم بحلاقة لحيته منذ أيام.

إنتشر الفرو الغزير على صدره وعلى سيقانه التي بدت سوداء كباقي جسده،

فأصبح صوته خشنا جدا ..أصبح صوتا رخيما،بل جهوريا ...بدأ  عادل يضحك.. ضحكات  مرتفعة ....

أفاق كمال من غفوته مذعورا ..تناول كوب الماء ..شرب مافيه وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم .

في الصباح نهض كمال وتوجه إلى  عمله. 


*   *    *    *    *    *    *    *    *    *    *    *


عندما إلتقى عبد الحميد بكمال سأله  ليطمئن عليه لأن هاتفه كان مغلقا ،

هنا أخبره كمال بحكايته منذ أول يوم وطأت فيه قدميه أرض تلك المدرسة،وكيف قلبت تلك المدرسة حياته رأسا على عقب منذ أن تعرف على عادل .

قال عبد الحميد بلطف ومودة الأخ الأكبر "أن الإنسان خطاء وخير الخطائين التوابين ياصديقي، كل ذلك ستتغلب عليه  طالما أن لديك الاستعداد للتوبة"

كان عبد الحميد متشوقا لرؤية عادل وليعرف من هو ،لكن بعد البحث  والسؤال تبين أنه لايوجد طالبا بهذا الأسم وولا بتلك المواصفات.


*   *    *    *    *     *     *    *    *    *    *    *    *   *


سأل كمال عبد الحميد:

-هل ستزيد من إرتفاع  سور المدرسة وعلوه كما كانوا يفعلون من سبقوك؟


-ههههههه بالطبع لا، فأنا لاأقارن بغيري ،بل سأقوم بهدم السور بأكمله لتبقى المدرسة مكشوفة تماما، كذلك سأقوم بقطع جميع الأشجار لكي لاتكون الساحة سترا لأحد ليمارس رذائله.


-لكن ؟


-أعلم ..أعلم قد يثير ذلك غضب الكثيرين خصوصا الأهالي والوزارة ،أن المدرسة ليست معتقلا كي نرفع سورها ونوقف حارسا على بابها ،لكن المدرسة وجدت لمن أراد تلقي العلم ،ثم أنا المسؤول هنا ولايهمني غضب أحد.


-لكن أرجو منك ياصديقي التأني ،أي لاتستعمل الشدة القسوى من البداية.


-ههههههه أنا للآن لم أستعمل الشدة بعد ياصديقي؟


-حسنا والنوافذ ماذا بشأنها.


-أما بشأن النوافذ فأنا سأقوم بتوزيع الكاميرات في كل مكان ،وسوف أعطي أمرا بإنارة الممرات ليلا لكي يظهر بسهولة كل  من يسير بها؟


-جميل. 


*    *    *    *    *    *     *    *    *    *    *


بالرغم من رغبة كمال الصادقة بالعودة إلى الله ،إلا أنه شعر أيضا بأن الذي فعله يعد خيانة لصديقه عادل ،فأن الذنوب  تأبى أن تسمح له بالتوبة .

فكان دائما يشعر بالضيق  ويتمنى أن يحتفظ بصداقتهما معا ،عادل وعبد الحميد، يريدهما معا،

فأن علاقة المرء مع أصدقائه تختلف من صديق إلى أخر ،فيوجد الصديق الذي نستطيع  ممازحته في الوقت الذي لانستطيع  ممازحة صديق آخر،

صديق نستطيع أن نبوح له بأسرارنا، لكن لانستطيع أن نبوح بها لآخر،

صديق نستطيع أن نراقصه كما هو الحال مع عادل ،لكن لانستطيع أن نراقص آخر،لكنا نكون بحاجة إلى جميع الأصدقاء.

لكن كمال لازال يجهل من هو عادل ..وماهي أهدافه، أنه أكثر من مجرد صديقا مراهقا بعمر الطلبة ..لقد سانده كثيرا في بداية عمله ،وكمال لايمكن أن ينسى المعروف،قد يكون  عادل محرضا على الرذيلة ،لكن كل صديق له مكانته الخاصة في قلب كمال ..وكان يحبه.

لكن لماذا عادل غير موجود في المدرسة .

بينما كان كمال غارقا في أفكاره ،دخل عليه عادل بأبتسامته التي قد تكون الأجمل هنا لو أنه غير من سلوكه المحرض على الرذيلة.

شعر كمال بالسعادة الغامرة عند رؤيته،

إقترب منه كما لو أنه لم يحدث شيئا ..عانقه بحرارة ..قبله بحب ،وقال كمال بود:


-أنا أعتذر عن ......


قال عادل مقاطعا:


-لاداعي للاعتذار ياصديقي..والآن هيا لنرقص؟


إستسلم كمال بسرعة لرغبة عادل الملحة في الرقص  ،فكان يشعر أثناء تأدية الرقصة  أنه يسمع  أو أنه كان فعلا يسمع إنبعاث السيمفونية الشهيرة "عندما يعزف الشيطان"

كانت تنبعث بصوتا صاخبا،

ثم خفت الصوت شيئا فشيئا  فهمس عادل إليه بينما كان يلصق فمه قريبا من أذنه كعادته:


-أن هذا اللقاء سيكون هو اللقاء الأخير بيننا ياصديقي؟


-لاارغب بسماع مثل هذا الكلام ،وهل الأصدقاء يفترقون. 


-في وضع كوضعنا وظروفا كظروفنا لابد من الافتراق؟


-لكن ..أن كل شيء سيكون على مايرام ياصديقي،الخلاف لايفسد الصداقة .


-هذا صحيح ،لكن أنا مهمتي قد إنتهت،وقد أمرت بالعودة ؟


-مهمتك!!


-ههههههه نعم ياصديقي، إنتهت مهمتي.


-بالله عليك هلا أخبرتني من أنت؟


-هههههههه ههههههه وألم تعرف من أنا إلى الآن ياصديقي. 


-ه..هل..تريد أن تقول.. أنك؟


-هي الحقيقة.


-ال ..الشيطان؟


-كلمة شيطان تثير الرعب في قلوب الناس ،ويستعيذون منها،لااعلم لماذا.. لكن الحقيقة أني كنت أشعر بأني كنت ساذجا أثناء وسوستي،  أمام وسوسة البشر في ذلك المستنقع القذر،لقد كنت تلميذا لهم ؟


-أنت على حق .


-وأخترت ذلك المكان الذي كان يلائمني أكثر من غيره ،إلى أن وجدتك؟


-لكنك أغرقتني في المستنقع ياصديقي.


-لا.. أرجوك ياصديقي،أنا لم أغرقك ،بل لم أغرق أحدا، لكن لابد من أن يحدث البلل للجميع؟


-وأبعدتني عن الله.


-قد تكون صادقا نوعا ما ،هذا من ناحية المعتقد ،لكن أنتم البشر كل ماتقترفونه من ذنوب تلصقونه  بالشيطان؟


-.................


-لكني لم أكن سببا أبدا في حبك لباتريك ،ولا سببا في حبك لسيئة الحظ منى هي فقط عواطفك الجياشة.. المشتتة من قبل أن ألتقيك ؟


-................


-لكن ..أنا فقط  من زين صورتك أمام أميمة وأوقع حبك في قلبها ،وأصبحت متيمة بك وتحترق شوقا لرؤيتك؟


-ياإلهي. 


-وأريد أيضا أن أخبرك شيئا آخر ،أن الشاب الذي هويت بهراوتك على رأسه دون أن مشورتي في بداية عملك هنا ..قد مات اليوم فقط من تأثير الضربة؟


-إذن ..أنا أصبحت قاتلا أيضا ..أنا إرتكبت كل تلك الأفعال بمجرد وصولي إلى هنا ..لتنشق الأرض وتبتلعني..نار جهنم قليلة علي.


-لنقل نحن شريكان في بعض تلك الأفعال ياعزيزي ؟


-أريد أن أسألك سؤالا واحدا ،لماذا ظهرت لي على هيئة غلام مراهق؟


-هههههه بالطبع لأني في مدرسة،فمن غير المعقول أن أظهر لك على هيئة أمرأة مثلا.. أما عندما تراني فتى جميلا من طلاب المدرسة ستنجذب إلي وتحبني لأني قد دخلت إلى أعماقك وعلمت ماذا تحب وماذا تكره؟


-ماذا أحب .


-تحب الجمال والبراءة والرقة ،والعطف ،كل شيء مفقود في حياتك ،البيت والأسرة والأولاد ،ورغبتك في أن تكون أبا بعد فقدك لأباك، ذلك جعلك تحب باتريك..وكنت ترى نفسك به؟ 


-ولماذا لاتبقى هكذا وننسى كل مامضى.


-هههههههه لايمكن ،فأنا كرهت صورة عادل كثيرا ،ههههه ،كذلك لن   يروق لك الشكل الحقيقي لي ..ثم لعلك نسيت بأني الشيطان؟


-حقاخيبة أمل كبيرة لي.


-لكن أمامنا خيارا واحدا فقط لنبقى معا  وبنفس صورتي هذه،صورة عادل؟


-ماهي. 


-أن نقترن ونبقى معا؟


-هذا لايمكن .


-لماذا؟


-لأني منذ تلك اللحظة إتخذت قراري بالعودة إلى الله. 


إستطاع كمال من خلال مراوغته  أن يرى عادل الفتى  أطول مدة ممكنة قبل الافتراق ،لكن عادل فهم ماذا يريد كمال من مراوغته تلك، فدفعه إلى الوراء وقال:


إذن الوداع؟


وقبل أن يستدر قال لكمال :


-أترغب في رؤيتي على هيئتي الحقيقة؟


-لاأرجوك أتمنى أن تغادرني وأنت على صورة عادل الذي أحببته وسأنسى من أنت ،وسأعتبرك أحد الطلبة الخبثاء فقط،أو حلما جميلا لكنه ممزوجا بوسوسة الشيطان وتحريضاته؟


-إذن لدي أمل في اللقاء والاقتران؟


-مستحيل  حدوث ذلك .


-لماذا؟


-لأني سأكون حينها أقرب إلى الله ،وآياته ستحول دون لقاءنا. 


-موافق ،لكن عليك أن تخرج نفسك بنفسك من كل مأزق يواجهك،وأن تنقذ نفسك من من كل سقوط ينتظرك من دوني..لكن إن طلبتني ستجدني قريبا منك ،لكن بشرط ..الاقتران؟


-بل الله سبحانه الأقرب إلي، وهو وحده الذي سينقذني .


إبتسم عادل وإختفى من أمامه..هكذا .. كالحلم تماما.


(يتبع...)

تيسيرمغاصبه 

١١-١٢-٢٠٢٢

تعليقات

المشاركات الشائعة