حب وطلاق:بقلم رعد محمد المخلف

 قصة قصيرة 


حُبٌّ وطلاق


كانت تذرفُ الدموعَ وهي تستمعُ إلى كلمات زوجها، المُنْهَمِك بجمعِ أمتعته في حقيبته الكبيرة، تحدَّث بهدوء تام، فقد كان قرار خروجه من البيت، أمرًا محسومًا بالنسبة إليه.  


- لا تبالغي في الحزن والأسى، ودموعك لن تغيّر في الأمر شيئا.. 

- أتتركني من أجل إمرأة أخرى.. ؟!!…  أنسيتَ حُبَّنا، ماضينا، أولادنا ، كلَّ شيئ قذفتَه وراء ظهركَ..؟!!

- تجاوزتُ الخامسة والخمسين من عمري، أعطيتُكِ والأولادَ كلَّ وقتي وعنايتي، ألا يحقُّ لي أن أعيش ما تبقى لي من حياتي ،كما أشاء.. ؟!!

- لكنّك نسيتَ أيضًا أنّني إمرأة في الخمسين..  أنا بدوري لم أبخل عليك وعلى أولادك بشيئ…  لقد ربّينا الأولاد ، وأتممنا تعليمهم العالي، ثم زوّجناهم .. والآن تتركني وحيدة في هذا العالم… !! من هي أيّها الطبيب المشهور ( الدنجوان )  ..؟!  مِن أجلِ مَنْ تتركني ..؟!! 

- أنتِ أيضًا طبيبة مشهود لها في كلّ المدينة، و ..

- سألتُك مَنْ تكون هذه السارقة، الهادمة لعشِّ زوجيّة دام لأكثر من ثلاثين عامًا ..؟!!

- إنّها الطبيبة رغداء… التي انتقلت إلى مستشفانا العام المنصرم ..!! 

- ويحك هل جننت؟! إنها طبيبة لم تبلغ من العمر الثلاثين ..؟! وما حاجتها بك ..؟!! .. ثم أنّها مُطَلَّقة ولديها طفلة تبلغ من العمر السِت سنوات… !! 

- أحُبُّها، وقد غرقتُ في حُبِّها، وهي كذلك تعشقُني حدَّ الجنون… !!

- متى استطعتما التقرُّبَ من بعضكما، إلى هذا الحدِّ وأنا أعمل في المستشفى نفسها… ؟!! كم أنا حمقاء وعمياء… !!…  


مسحَتْ دموعَها، وقد استعادتْ شيئا من قوّتها ورباطة جأشِها، لتستمر في كلامها :


- أيّها العجوز…  آه .. آه .. ألم تسأل نفسك سؤالًا، لِمَ قد تُعجَبُ بك طبيبة فَتيّة وجميلة كرغداء، وما أسبابها… ؟!!.. ألا تتوقّع أنّها تستَغِلُك لشيئ ما في نفسها ..؟!! ألا ترى الفارقَ العُمريّة بينكما ؟!!…  صدّقني، سترميك مع أوّل فرصة سانحة لها، ومع أوّل إمكانيّة تعارف مع رجل آخر ، أصغرَ منك سنًّا وأغنى منك مالًا.. !! 

لمْ يأبَه لما تقول، وتابع بإصرار: 


- سأعود لاحقًا كي آخذ بقيّة ثيابي وأغراضي ..


قالَ عبارته الأخيرة، وهو يقفل حقيبته المنتفخة، ويتجه صوبَ الباب.  صرختْ به كي يعود، ولكنه كان قد أوصد الباب خلفَه. 

جلستْ تبكي برهة من الزمن، أشعلَت لفافة تبغ وهي تتمتم  : 

- لن يكون لك مكان عندي بعد الآن، سأجعلك تندم على فِعلَتِك يا تيسَ الماعز الأشيب ..!!


في اليوم التالي، لم تذهب إلى المستشفى، وكذلك إلى عيادتها الخاصة، بل اكتفتْ بالاتصال مع صديقاتها، كي يحضروا إليها للمواساة والشورى أيضًا، فقد كانت أفكارها مبعثرة، وذهنها شارد، ودموعها لا تفارقُ لها خَدًّا. 

في المساء حضرتِ الصديقات تباعًا، وكلّ منهن جلبتْ معها شرابًا، أو طعامًا وفواكه. 

جلسنَ في غرفة الضيوف، إلى الطاولة الكبيرة المُعَدّة للمناسبات العائليّة، حيث بدأتْ إحداهن كلامها مواسيّة : 

- لا تحزني يا صديقتي ..!! فليذهب إلى الجحيم بدون عودة… !! 

وأضافت أخرى :

- سنجدُ لك زوجًا ثلاثينيًّا، فكما تُدينُ تُدان ..!!

تنهَّدت الطبيبة بعمق وقالت:  

- أتَعْلَمْنَ يا فتيات ..؟!!… - تنهّدَتْ بعمقٍ ثم تابعتْ -  لقد قال لي أنّه لم يَخُنّي معها… لقد قالها وأنا أعرف أنّه لا يكذب أبدًا…  قال لي أنّه يريد الزواج بها عَلَنًا، لأنّه رجل لا يحبُّ الحرام .. وقد كان صريحًا إلى حدٍّ كبير ..!!


قامتْ إحداهنّ من مقعدها وصرختْ : 

- أقسم بالله أنَّك مجنونة.. !!  .. .. أنت تحبّينه… أنت مجنونة .. حمقاء .. اقذفي به إلى سَلّة مهملات التاريخ فورًا… ....!!


بينما تدخّلَتْ أخرى لتقول: 


- هل لديكم ممتلكات مشتركة… ؟!!


ردّتْ وقد وضعتْ يدها على خدِّها بحزن :


- أجل…  هذه الشّقة السكنية، له فيها النصف…  لقد أشتريتُها منذ زمن بعيد، وقام هو بشراء الشّقة التي قِبالتنا منذ عشر سنين، وقد دمَجنا الإثنتين معًا كما ترين، بهدف توسِعتها، وزيادة عدد الغرف للأولاد..  أمّا ما يخصُّ المنتجع خارج المدينة ، فهو هدية من والديّ لي، بعد أن تزوّجتُ، وهي ملك لي ، وأمّا  عيادتي فهي مُلكي، وأمّا السيّارة فله، وقد اشتراها من حسابه الخاص……  و ..


قاطعتها التي طرحتِ السؤال  :


- هذا جيّد .. ولكن عليك فصلُ الممتلكات، فلستِ تدرين، لعلّ تلك المرأة ستحرِّضه عليك كي يأخذ منك سكنك هذا ، ولابد من البتِّ بهذا الأمر بأسرع وقت ممكن… .!! لديّ صديق حقوقيّ، لديه خبرة كبيرة في أمور كهذه، سأكلّمُه غدًا صباحًا بالأمر، وليبدأ الإجراءات القانونيّة فورًا… !!


 ** بعد شهرين 


عادتِ الطبيبةُ إلى البيت في ساعة متأخّرة من الليل، بعد أنْ قضتْ وقتًا ممتعًا برفقة صديقاتها، اللواتي كنَّ مدعوّات إلى عيد ميلاد إحداهنَّ، فتحتِ البابَ وولَجتْ؛ وعلى الفور لاحظتْ ضوء مُنارًا في غرفة الضيوف؛ فصاحتْ فرحةً، لِظَنِّها أنَّ أحد الأولاد قد جاء لزيارتها :


- مساء الخير……  !! هل من أحدٍ في البيت… ؟!!


لم تلقَ جوابًا من أحد، خلعتْ نعليها، ودخلت إلى الغرفة، وإذ بها تتفاجأ بطليقِها، وقد جلس وأمامه فنجان قهوة يحتسيه؛ فثارتْ ثائرتُها على الفور، وقفت وقد عقدتْ ساعديها تحت صدرها وقالتْ :

- ما الذي جاء بك إلى هنا… ؟!…  وكيف دخلتَ إلى المنزل… ؟!!

- أراكِ متأخرة في العودة إلى المنزل… !! عُمتِ مساءً… !!

- وما شأنكَ أنت… ؟!!…  كيف دخلتَ إلى هنا ..؟!!

- كيف .. كيف ..؟!! دخلتُ عن طريق الباب، بعد أن فتحتُ القفل بمفتاحي ..!! 


قال كلماته هذه بهدوء تام وعبوس؛ فقد بدتْ على وجهه علاماتُ الكآبة والحزن، وصوتُه المتهدّج كان دليلًا على ألم واضح يعانيه، لكنّها لم تكترثْ بما لاحظتْه عليه، وسارعتْ بالقول :


- بأيّ حقّ سمحتَ لنفسك، أنْ تقتحم بيتي بدون إذنٍ منّي… ..

- لكنّه بيتي أنا أيضًا… .

- لا .. ليس بيتك يا ( عاشق الجمال )…  فقد دفعتُ لكَ ثمنَ النصفِ الآخر من الشّقة، وأمام القاضي، ولهذا أقول لك : أخرج من منزلي فورًا، وإلّا طلبتُ لك الشرطة، كي يخرجوك عُنوة…  


قاطعها بلباقة واحترام :


- أنا لا أنكرُ عليك هذا الحقَّ يا عزيزتي… 


ثارَ غضبُها، حين سمعتْه ينعتها بنَعْتِ ( عزيزتي) ، ولهذا غيّرتْ من لهجتِها، لتأخذ شكلًا أشبه بالصراخ :


- أيّها العجوز التعِس، كيف تجرؤ على نعتي بهذه الصِّفة أيّها الكذّاب، الأفّاك، المُخادع، الشرير…... ؟!! هل هجَرَتْكَ جميلةُ الجميلات.. ؟!!…  هل تذكرُ أنّني حذَّرتُك من هذه النهاية المحتومة… ؟!! بيدَ أنّني لمْ أتوقعها بهذه السرعة طبعًا - ضحكتْ باستهزاءٍ ، وقد وضعتْ يديها على خصرها - مرَّ شهران فقط، وها هي ترميك خارج العُشِّ… !! .. هيّا قُمْ وغادر بيتي حالًا وإلّا سأطـ…….. 


بادرها دون اكتراث لكلماتها وصراخها العالي :


- حَلّتْ بي مصيبة عظيمة يا أمّ الأولاد… !!

- لا يهمّني هذا .. ليس من شأني… !! هيّا غادر منزلي بسرعة .. .. 

- لقد رحلَتْ رغداءُ… ...

- كان هذا مُتَوَقّعًا يا ( دنجوان) الحبِّ…  ولْتعلم أنْ لا مكان لك في قلبي…  أنتَ من اخترتَ هذا………  وأنتَ من يجبُ عليه دفع الثمن……  هيّا قُمْ؛ فزيارتك قد انتهتْ…  غدًا سأغيّر أقفالَ كلّ الأبواب، كي لا أتفاجأ بك ثانية… .!!

- لقد رحلَتْ رغداء… ... - غَصَّ قليلًا - إلى جوار ربّها…  !!


حين سمعتْ عبارته الأخيرة، جلستْ قِبالته، وقد هدأتْ ثورتُها، وبادرتْ بالسؤال بهدوء:  


- كيف حدثَ هذا… ؟!!


أشعلَ لفافة تبغ، وناولها واحدة، ثم أضاف بصوت مرتعش :


- كُنّا معًا…  برفقة الصغيرة…  نَتَنَزّه في الحديقة العامة ... قرّرنا في ذلك اليوم أنْ نتركَ سيارتنا أمام البيت ونذهب بوسائط النقل العام، تحقيقًا لرغبة الصغيرة التي تحبُّ الحافلات الكبير…  و… 


- أكمل .. وماذا حدث… ؟!

- تناولنا طعام الغداء…  ثم خرجنا نقصد البيت…  وقفنا على موقف الحافلة…  طلبتِ الصغيرة بعضَ المثلجات…  أخذتُها من يدها، وتركنا الأمّ واقفة في الظلِّ…  فجأة…  سمعتُ صوتَ زعيقِ عجلات سيارة... خرجتْ عن طريقها وارتطمتْ بقائمة الموقف، ثم هرستْ رغداء المسكينة… - أجهشَ بالبكاء -…  نقلتُها إلى المستشفى، لكنّ كلّ شيئ كان قد انتهى… 


نظرتْ إليه طليقتُه بأسى وحزن، وقالتْ :

- والآن… ماذا ستفعل ؟!! 

- أفكّر في العودة إليك مع الفتاة الصغيرة، كي نعيش معًا… و… نرتبط من جديد ..


وقفتْ على الفور منتصبة، وكأنَّ تيارًا كهربائيًّا صعقها، وبادرتْه دون أنْ تعطيه فرصة لاتمام فكرته :

- هل تظنّني بسيطة إلى هذا الحدّ ؟!!…  ويحك…  كم أنت وقح ومجنون .. ألا سحقًا لك ولكلّ أفكارك الأنانيّة هذه…  تتركني وحيدة من أجل إمرأة أخرى ، ومن ثمّ تعود إليّ بعد أنْ لعبَ القدرُ لعبته معك…  - قهقهتْ بعصبيّة وهي تشير إليه بسبابتها -…  هل تظنّني مجنونة كي أقبلك من جديد، والأنكى من هذا أنّك لن تعود بمفردك، بل مع طفلة صغيرة أيضًا، وعليّ رعايتها والتَكَفُّل بتنشئتِها….  كم أنت أنانيّ .. بل وساذج أيضًا…  اسمعني جيدًا…  كُنْ أبًا صالحًا لتلك الطفلة المسكينة… ولا حاجة لدموع التماسيح هذه، كي تذرفها عندي ...

- أولادنا بعيدون عنّا…  وقد نكون بحاجة لطفلة صغيرة تملأ علينا البيت من جديد .. و..

- لستُ بحاجة لأحد… !! زيارتك انتهت… . عِشْ كما يحلو لك يا عزيزي…  ودعني أعيش حياتي كما يحلو لي .. هيّا…  غادر…  لا أريد أنْ أراك ثانية…  


 ** بعد مرور سنة 


استوقفتْ سيّارة أجرة في ذات صباح؛ فقد تأخّرتْ على موعدها مع رفيقاتها اللّواتي كُنَّ يَتَجَهّزنَ للذهاب لمنتجعها وقضاء يوم العطلة هناك، ركبت  السيّارة وأعطتِ السّائق العنوان وأمرته بالإسراع قدر الإمكان. 

قادَ السّائق السيّارة، وقد أبلغها أنَ الطرقات كلّها مزدحمة هذا اليوم، وليس باستطاعته القيادة بسرعة؛ فغالبية الناس قد خرجوا إلى الطبيعة، في هذا اليوم الربيعيّ الدافئ .

توقّف السائقُ عند إحدى إشارات المرور ، وقد ازدحمتِ السيّارات أمامه، وفجأة، رأتْ طليقَها بصحبة الفتاة الصغيرة وهما يسيران على الرصيف تحت ظلال الأشجار، وقد بدتْ ملامحُ السّرور على محيّاهما؛ فالطفلة تركض أمامه لبضع أمتار، ثم تعودُ إليه مسرعة وتطوّقه من جذعه، وهو ينحني إليها ويحدّثها بشيئ ما، لاحظتْ مدى السعادة التي يعيشانها، واستعادتْ سريعًا ذكرياتها، حين كانت تتنزّه معه برفقة ابنهما البِكْر، شعرتْ بحنين غريب وقد رأتْ ما رأتْ في هذه اللّحظات؛ فأنقَدتْ السّائقَ النقود، بعد أنْ قالتْ بأنّها ستُكمِلُ الطريقَ سيرًا على الأقدام. 

خرجتْ من السيّارة واتجهتْ صوبهما، ألقَتِ التحيّة عليهما، أشرقَ وجهُ الرَّجل حين رآها؛ فردَّ التحيّة عليها، وأخذ بيد الصغيرة وقدّمها نحوها، وقال:  

- هذه صديقتي يا صغيرتي… !!

نظرتْ الطفلةُ إلى المرأة الواقفة أمامها، بعيونها السوداوتين الكبيرتين، وقالت: 

- صباح الخير يا خالة… !!

- لعلّك لا تعرفينني، ولكنّي أعرف أباكِ منذ زمن بعيد……  ماذا تفعلون… ؟!!

- نتنزّه مع أبي، فهذا يوم عطلتنا...!!


نظرتْ إليه بحنوّ وقالتْ موجّهة كلامها للطفلة: 

- هل تودّين أنْ نصبح أصدقاء… ؟!!

نظرتْ إلى ( أبيها) مستفسرة عن الجواب؛ فأومَأ لها برأسه، أنْ وافقي، فقالتْ: 

- أجل…  أوَدُّ ذلك… !!

- فما رأيكِ أنْ نتنزّه معًا… .؟!! أريد دعوتكم لتناول المثلجات…  أنا أعرفُ مكانًا رائعًا بالقُرب من هنا .. هل توافقين… ؟!!


قفزتِ الفتاة في الهواء فَرِحَةً، ومدّتْ يدها إليها معلنة موافقتها بِلا كلمات .. 

سارا تحت الظلال ، والطفلة تتوسطهما، ممسكة بأيديهما، وهي تُنَقِّلُ نظراتها بينهما ..


#رعد محمد المخلف. سوريا


تعليقات

المشاركات الشائعة