العنها أم أشكرها: بقلم رعد محمد المخلف

 قصّة قصيرة


أألعنها أم أشكرها ؟!!


قبضتُ مُرَتّبي وأخذتُ أسير باتجاه البيت عابرًا كلّ الطُرق التي بتُّ أعرفها عن ظهر قلب، حتى أنني كنت لأعودَ للبيت مغمض العينين اذا ما لزم الأمر .... سِرتُ وسِرتُ غير آبه لما يجري حولي ويدي في جيبي تتلمس النقود، فوضع اليد في الجيب ميّزة حميدة لمن يحرِص على عدم فقدان مُرتّبه في أوّل الشّهر .


فجأة وبدون أيّة مقدّمات لفحتني نسمة لّذيذة، أو بالأحرى عاصفة دخلتْ من منخري واستقرت في رأسي ، ولو أن وصفي للنسمة باللّذيذة ليس من الفصاحة بمكان، ولكنني أصر على تسميتها باللّذيذة . يا الله كم هي مُشهيّة هذه الرائحة !! وبالغريزة الإنسانية التفتُ إلى مصدر النسمة أو عفوا العاصفة تلك ، لتستقرَ عيناي على فتاة فائقة الجمال، رائعة القوام،  مكتنزة الجسم. 


 كانت متبرّجة بشكل دقيق ومُحكَم بحيث إذا مرّ عنترة بن شداد ومعه عبلة، لتركَ عبلة ولحقها، من روعة الجمال الذي يكاد اللسان والقلم والعقل يعجزون عن وصفه. 


 نظرتْ إليً نظرةً زلزلتْ كياني وطحنت عظامي، لتجعلها نثرا منثورا، وأنا بالمقابل تَفَعَّلَتْ لديّ ميزة الفراملُ ال ( abs)، وتسمّرتُ في مكاني أنظر إليها وإلى تنّورتها الحمراء القصيرة، وحذائها اللّامع. 


 ابتسمتُ فابتسمت، ولا شعوريًا تقدّمتُ نحوها، كما تتقدّم قطعةُ الحديد من المغناطيس وبادرتُها : 

- مرحبا أنا .......!

فأجابتني بهمسة : 

- معك نقود..  ؟

قلتُ : شِبه نقود، ولكنّها نقود .... أقصد نعم لديّ القليل منها ...

أجابت : اشترٍ المتعة والجمال ب 5000 قطعة نقدية ...!

حَسبتُها فورًا وعلمتُ أن ربع المرتّب قد طار للتوّ ، وقلت : اشتريتُ.. _ بلا تفكير _ .


                           *****

استفقتُ على السّرير وتلمّستُ بيدي المَساحةَ المُتبقيّة من الفراش، وعينيّ لا تزالان نصف مغمضتين؛ فلم أجد أحدًا..!


 هَمَمتُ ولبستُ ثيابي على عجل 

فوقعتْ عيناي على رسالة كُتبَتْ على ورقة ووضِعَتْ على المنضدة بجوار السرير، التقطتُها بسرعة وفتحتُها، وإذ بها بضع كلمات : "أهلا بك في عالم مرضى الإيدز"..!


خارتْ قِواي، ورُكبتاي لم تحتملا ثِقَلي؛ فجلستُ على السّرير، وأعدتُ القراءة من جديد؛ فلم تتغيّر الكلمات ولم يتغير المعنى.  فَرَكتُ عينيّ بقوّة لعلّي أصحو من هذا الحلم المزعج، لكنّني كنتُ مستيقظًا بالفعل ..!


 أيّتها العاهرة المقيتة سأجدك وسأدق رقبتك بالتأكيد قلت في نفسي، اقتلعتُ جسدي الملتصق بالسّرير، ولكن سُرعانَ ما خارتْ قواي وانهارتْ، وأخذتُ ابكي بمرارة وحزن على شبابي الذي انكسر وضاع. 


 آلاف الأفكار تقاذفتْني في تلك اللحظة ، ماذا سيقول أبي، وكيف ستتحمل أمي الصدمة..؟ وما هي ردود أفعال أصدقائي وزملائي في العمل..؟ يا ويحي ، يا ويحي ما العمل ؟! أأذهبُ إلى مركز استقصاء الإيدز ، أم أن فترة الحضانة لا تزال قليلة ولن يظهر شيء في التحليل ؟!! ، أم أنتظرُ حتى تظهر العلامات الخبيثة لهذا المرض؟! ......... آه لعنة الله عليك أيّتها المومس ابنة إبليس ..كيف قلبتِِ حياتي رأسًا على عَقِب.. !!


مرّت ساعات وأنا أفكر بما قد أفعل ومن أين أبدأ، وكيف أتعامل مع هذه المصيبة التي حلّتْ على رأسي دون سابق إنذار !! ولكنّني اتخذت قراري بعد أخذٍ ورَدٍّ طويلين، قرّرتُ الذهاب إلى المصحّ لأقبع في الحجر الصحّي طواعية، وبالفعل استجمعتُ قواي ووقفتُ واتجهت نحو الباب ......... ما هذا ؟ أهي رسالة أخرى أم ماذا ؟!!! . كانت هناك رسالة معلقة على قبضة الباب، حثثتُ الخُطوات سريعًا لأصل إليها، فانتزعتُها بخفّة وفتحتُها وانا أرتجف، ويا للصاعقة التي هبطتْ عليّ وأنا أقرأ الكلمات : "ههههههه هل خِفتَ..؟! هههههه كنتُ أمزح معك، أنا لستُ مريضة، أحببتُ أن أنتقم فقط لشرفي منكم معشر الرجال؛ فلا عسل بدون لسع…!  الودااااااااع "..! 


جثوتُ على ركبتيّ، وأنا في ذهول عظيم ، وأعدت قراءة الورقة أكثر من ألف وسبعمائة مرة، والكلمات هي الكلمات نفسها .... وعندما وصلتْ الفكرةُ إليّ وهدأت أعصابي، قررتُ أن أُخضِعَ نفسي للتحاليل الطبية برغم  رسالتها الأخيرة ..


 مرّتْ على هذه القصة أكثر من 15 سنة وأنا لا أزال في خوف وشكّ من أمري على رغم  زواجي الذي سارعتُ به بعد ظهور النتيجة مباشرة بخلوّي من هذا المرض الخطير، والحمد لله الذي رزقني أولادًا ذكورًا وإناثًا ... لكن العِبرة أنني تِبتُ إلى الله عزّ وجلّ  وأنا أذكر تمامًا دخولي إلى المسجد القريب من حيّنا لأوّل مرّة رغم  مروري به آلاف المرّات ولم أفكّر يومًا بالصلاة فيه ولو مرّة واحدة ..... نعم لقد شاء الله أن أعود لنوره و إن كانت بطريقة أرعبتْني وزلزلت كياني حتى النّخاع، إلا أن العِبرة بالنتيجة وخير الأعمال خواتيمها ..... وأنا لازلت أفكر بها أألعنُها لأنها أرعبتني كل ذلك الرعب ، أم أشكرُها لأنها أعادتني إلى الله بقصد أو بغير قصد . .؟!

✍️ رعد محمد المخلف

20.09.2019


تعليقات

المشاركات الشائعة