رسالة: بقلم رعد محمد المخلف

 قصة قصيرة

رسالة

دعوني أعرّفكم بنفسي:  أنا أحمد وأعيش مع أبي وأمي اللذين أحبُّهما كثيرًا؛ وأخافهما بشدّة كذلك، وأتحاشى الاحتكاك بشقيقي الأكبر لأنّه عندما يغضب، يضربني بعنف وكأنّه يضرب عدوّا لدودًا؛ ولستُ أفهم سببَ كرههم لي، مع أنّني أحبّهم جدًّا وأنا متفوّق في دراستي..  عمري سبع سنوات ولكنها تبدو لي أكثر من ذلك بكثير..  معلمتي تحبُّني جدًّا، وأنا أحبُّها حُبًّا جَمًّا، كما أحبّ كلّ زملائي التلاميذ في الصفّ على الرغم من عدم تقَبُّلي من طرفهم؛ فأنا لا أملك أصدقاء في المدرسة؛ وكلّما تقرّبتُ من أحدِهم أبتعد عنّي وكأني شبحٌ يريد التهامه، ولذلك أثناء الاستراحة بين الدروس كنتُ أجلس في الصفِّ ولا أغادره أبدًا، أُلهّي نفسيَ بأقلامي الرصاص، وهذا أفضل حلٍّ للجميع؛ لأنني كنتُ أشعر بالوحدة في باحة المدرسة… واليوم وبعد انتهاء الدوام المدرسي، خرجتُ  قاصدًا البيت الذي يبعد كيلومترات عدّة عن المدرسة، كانت الريح الثلجيّة تصفر بشدّة وتدفعني إلى الوراء، والثلج الناعم يعيق رؤيتي، لعلّ حظي العاثر استدعى تلك الريح الباردة لتكون هي الأخرى حليفًا لكلّ القسوة التي كانت تحيق بي، وسترتي المتهالكة الخفيفة التي كانت مخصّصة لفصل الربيع وليس الشتاء، لم تكن تقيني البرد، ناهيك عن الهواء الذي كان يخترقها كما يخترق الرصاص الأجساد العارية، وعلى حين غفلة مني وبينما كنتُ أسير مقارعًا دفعَ الرياح لي، قفزَ من ورائي أحدُهم، أوقعني أرضًا؛ وشعرتُ بالأيدي التي تكالبتْ عليّ؛ فمنها مَن أمسكَت برأسي من خلفٍ وغرزتْه بالطين المُثَلِّج، وأخرياتٌ ثبَّتَتْني إلى الأرض وأنا مقلوب على بطني؛ وأخذتِ الركلاتُ تنهال على جسدي النحيل من كلّ ناحٍ وصوب؛ لم تكن معاناتي سوى بضع ثوانٍ معدودة، سمعتُ خلالها من نعَتَني بالوحش ومنهم من وصفني بالمتشرّد؛ وقد عرفتُ  أصحابَ تلك الصرخات، إنّهم زملائي في الصفّ والمدرسة، هؤلاء الذين كنتُ قد حاولتُ التقرُّب منهم ليكونوا أصدقاء لي. 


هربَ الجميعُ وقد رَووا عطشَ حقدِهم- غير المبرّر- عليّ، جلستُ بُرهةً محاولًا تفسيرَ ما حدث لي، أبعدتُ الطين عن وجهي وعيوني، وبصقتُ بعض ما دخلَ منه في فمي، والحمد لله الذي لم تتنكّر لي الدموعُ التي تدفّقت مدرارًا لتُعينَني على غسل وجنتيّ؛ لم أكنْ أبكي من أوجاع جسدي الذي هُرِسَ تحتَ الأقدام وحسب؛ إنما كنتُ أبكي من شدّة البَردِ الذي زاد مع تَبَلّلِ ثيابي بالطين الرَّطب والثلج. 


بعد هذه الحادثة، أخذَ مستواي في الدراسة ينخفض للأسوأ؛ فلم أكن أعي ما يُقَالُ في الدَّرس، بل خُيّلَ إليّ وكأنَّ معلمتي قد فَقَدَتْ صوتَها، نعم هي تشرحُ الدرس، وأنا أرى حركاتها عند اللّوح ولا أسمعُ كلماتها، ولهذا كان والدي يضربني بعنف بسبب هذه الحالة التي أضافتْ إلى معاناتي فصلًا جديدًا؛ وذات مرّة ضربني بعصا على يديّ أصابتْ إصبعًا، ازرقّ لونُه وبعد يومين تصلّبَ مفصلُه وباتَ إصبعًا بلا حركة ولا انثناء؛ وهذا ما أعطى لزملائي حجّة أخرى للسُخرية مني.


 مرّتِ الأيامُ ثقيلة وبطيئة، حتى جاء ذلك اليوم في المدرسة،حيث طلبَتْ منّا المعلمةُ رسمَ لوحة تجسِّد عنوان

َ " حلمي " ، الكلُّ رسمَ سيّارات وطائرات وحقول يتخلّلها نهرٌ أزرق، بينما جلستُ أفكّرُ بشيء آخر تمامًا؛ فلم أكنْ أرغبُ في رسمِ تلك الأشياء الفارغة، لأنّها باختصار لم تكن تعبِّر عن حُلُمي، ولهذا رسمتُ أُسْرَةً سعيدةً - جسَّدتُ فيها الأمّ والأبّ والولد الضاحك بينهما- تجلسُ إلى طاولةٍ عليها لعبة تشاركيّة مع الطفل؛ ولا أكتُمُكم سِرًّا أنّني كنتُ أبكي أثناء رسمها، فهي حلُمي الحقيقي؛ وعندما حانَ دوري لأشرح لوحتي، ذهبتُ إلى اللّوح ووقفتُ أمام الجميع وقلتُ بصوت فيه ثبات وإيمان بما رسمتُ: هذا حُلمي، هذه أسرتي. 


 ضحك الجميعُ من لوحتي وقولي، وصرخ أحدُهم : وهل الأسرة حُلُم؟!!، وهنا لم أستطع كبحَ مشاعري؛ وبدأت دموعي تتدفّق من عينيّ وقلتُ لهم: " نعم…  الأُسرة بالنسبة لي هي الحلم..!!  أريدُ أن يكونَ لي أب وأمّ حانيين، في كلّ يوم أغبطُكم وأنا أرى آباءكم ينتظرونكم عند باب المدرسة ليرافقوكم بكلّ ودٍّ إلى البيت، بينما أنا لا ينتظزني أحدٌ.. أرجوكم كفّوا عن السخرية مني وضربي كلّما سنحتْ لكم الفرصة…!!  ما ذنبي إذا كنتُ بَشِعًا وأعرَجًا..؟! ما ذنبي إذا كان أحد أصابعي قد فقدَ الحركة وتجمّد، بعد ضرب والدي لي وإصابته لإصبعي بكسرٍ، لم يأبَه له ولم يسعفني إلى المستشفى؟!!…  أرجوكم .. أتوسّل إليكم لا تسخروا مني بعد هذا اليوم؛ طَفقْتُ أبكي بمرار، جعلَ معلمتي تتمالك نفسها بصعوبة حتى لا تبكي. 

تَفَهّمَ البعضُ مأساتي، بينما تجاهلَها الآخرون واستمروا في الاستهزاء والضحِك.


في أحد الأيام حصلتُ على علامة متدنيّة في مادة اللغة العربيّة، وخفتُ من العودة إلى المنزل؛ وقد فكّرتُ طويلًا أنْ أذهبَ إلى أيّ مكان بعيد على وجه الأرض كي أتجنَّب العِقاب المحتوم، لكنني لم أجدْ لي مهربًا آخر في كلِّ هذا العالم الرحِب، وكان لزامًا أنْ أواجه (حفلة) العذاب التي تنتظرني في المنزل.


  عَلِمَتْ أمّي نبأ رسوبي في اللغة العربيّة، وبعد جولة الضَّربِ التي تلقيتُها منها، لم أكن قادرًا على الوقوف على قدميّ، احتضنتني أرضيّة الغرفة التي شعرتُ بحبِّها لي؛ فلم تكن ترفسني أو تقرض أذني أو تضرب ساقيَ العاجزة وتلطم وجهي، بل على العكس تمامًا؛ فبرودتها أعطتْ لوجهي الملتهب بعض الإنعاش؛ فطفَقْتُ أقَلِّبُ وجهي يمينًا ويسارًا، خاصّة وأنْ أمّي تركتني وذهبتْ لمكان آخر، زحفتُ وأسندتُ يدي إلى الأريكة، وجلستُ بتهالُكٍ عليها، ولحسن الحظّ أنّني وجدتُ قطعة كعكٍ تركها شقيقي هناك؛ فأخذتُ أقرضها بهدوء ويداي ترتعشان، حتى لا أُسْمِعَ صوتَ تَكَسُّرِ الكعكة تحت أسناني، وما أجمل حلاوة الكعك المُحلّى مع ملوحة الدّم في الفم، وبعد قليل عادتْ أمّي وقد رأتْ الكعكة في يديّ، فقالت:  " بعد هذا الفشل الذريع أتظنُّ أنَّك تستحق جائزة الكعك أيّها القبيح الأبله.. ؟!!…  سيعود والدُك قريبًا  وسنرى ماذا سيفعل مع خبرِ رسوبك باللغة؛ وهنا رميتُ قطعة الكعك وسقطتُ على ركبتي أتوسّلُها أنْ لا تُخبِرَه بذلك، فقد نُلتُ من العقابِ ما يكفي لهذا اليوم؛ وفي هذه الأثناء دخل والدي إلى البيت؛ وما أنْ سمعَ النبأ السار الذي يبرّر له ضربي، حتى انهال علي باللّطم والرَّكلِ، وعندما قرّر إيلامي بشكل كان يعلم أنّني لن أتحمله، أمسك بإصبعي المتحجّر ولوَاه بشدّة، فقدتُ الوعي بعدها ولم أستفق إلّا وأنا في المستشفى. 


 شعرتُ براحة غريبة تغمرني خاصّة في يدي؛ ولمّا رفعتُها فهمتُ سببَ راحتي، لقد بتروا إصبعي الذي تموَّتَ مع الوقت.  كنتُ أنظرُ من نافذة الغرفة وأراقب الناس وهم يهرولون مسرعين تحت الثلج المتساقط بهدوء، بعضهم يمسكُ بيد طفله، يسنده تارة، ويحمله تارة أخرى، خوفَ سقوطه أو تزحلقه، ودموعي تنسابُ على خديّ وأنا أنتظر زيارة والديّ، دون جدوى.


 مضتْ أيام عِدّة لم يحضروا لزيارتي أو حتى السؤال عن صحتي، وحين دخلَ الطبيب إلى غرفتي نظر إلى مكان البتر وابتسم بلطف شديد ولمس رأسي وربّتَ عليه، يا ربي كم شعرتُ بحلاوة تلك اللمسة الأبويّة لي.!! …  لم أكن قد لاحظتُ الإمرأة التي وقفتْ بجانب الباب، لم أرَها من قَبْل بل لا أعرفها بالمطلق، كانت كبيرة بالسّن، واجمة لا ترفع عيونها عنّي أبدًا، وحين مددتُ يدي نحوها، انتبه الطبيبُ وشرح لي أنها مديرة دار الإيتام في المدينة، وأنّ لديها ما تقولُه لي، انتابني خوفٌ من نوع جديد، وكأنَّ حياة أخرى باتت تطلُّ برأسها من وراء الضباب الذي لفَّ حياتي الصغيرة المملوءة بالقهر والعذاب، أخذتني الأفكار الطفولية إلى البعيد البعيد؛ وآلاف الأسئلة تطرق رأسي المتصدّع وتزيد في عذاباته، أخيرًا خرج الطبيبُ وفسحَ لها في المجال لتأخذ دورها كما يجب، اقتربَتْ مني وقالتْ : 

- كيف حالك يا صغيري… ؟!!

كلماتُها زادتْ وجَلي، وأضافتْ ملايين الأوجاع إلى روحي المكلومة؛ لماذا هي موجودة هنا ولأيّ غرض، ولمَ لمْ يحضر والداي إلى هنا ؟!!..


ظلّتْ تنظر إليّ بهدوء ورصانة، ولمستْ يدي بأصابعها بلطف، شعرتُ معها بحنان الأمّ أو الجدّة؛  ولعلّها في هذه الأثناء، كانت تحاول انتقاء مفردات مناسبة لإيصال فكرة ما، كانت تجول في خاطرِها، ولعلّ لمستها هذه، كانت بمثابة فاصل يتيحُ لها تدَبَّر الأمر واقتناص المناسب من الكلمات. 


مرَّتْ دقائق ونحن على هذا الحال، وأصابعها تمسك بيدي، حتى حانتِ اللحظة التي كنتُ انتظرها، كي تنتهي حيرتي وآلاف الأسئلة التي اضرمتْ نيرانها في قلبي المجروح، نعم لقد فارقَتْ بين شفتيها، وهاهي تهمُّ بالكلام الآن: 

 - بنيَ الصغير…  !! أنت لا تعرفني، ولكنني أعرفُك جيّدًا… أنا والدة أمّك الحقيقيّة التي فارقتِ الحياة لحظة وصولك إلى هذه الدنيا…  أبوك كان يعتزم الزواج من أمّك ولكن ظروفه لم تسمح بذلك؛ فولِدتَ يتيم الأب وهو على قيد الحياة…  أوضاعه الماليّة رائعة، وهو من كِبارِ الصناعيّين في المدينة….  صارحتني أمّك بما جرى بينهما، كانت تحلمُ بأنْ تضمّك إلى أحضانها، وتعيشَ في كنفها مع أبيك تحت سقف واحد، لكن قضاء الله عزّ وجلّ غير مردود أو مدفوع…  - انفجرتْ دمعة عظيمة من عينها، وشاركتُها ذلك بدون شعور مني - كان رجلًا لعوبًا ، زير نساء…  حتى المرأة التي عشتَ معها طوال تلك السنين كانت عشيقة له، وبعِلمِ زوجِها الذي كان يعمل خادمًا في مكتب أبيك….  عندما ماتت أمّك، طلب منه أن يعتني بك لبعض الوقت، حتى يتسنّى له الوقت في إقناع زوجته وأولاده بقبولك بينهم، لكن القدر لم يسعفه بالوقت، ففارق الحياة هو الآخر بحادث سير مريع بعد ولادتك بشهر واحد…  كان قد وعدَ الرَّجلَ وزوجته بشقّة سكنية، تصبح مُلكًا لهما بعد اتمامك للعام السابع…  - وهنا اخرجت من كيس كان بحوزتها، قطعة حلوى كبيرة أهدتها إليّ - وها أنت قد أتممتها بسلام يا صغيري…  أوكلَ أبوك محاميّه الخاص لتنفيذ العقد بينه وبين الرجل… بشرط أن يتبناك ويمنحك اسمه بشكل مؤقّت، ريثما يستكمل خطّته مع عائلته وأبنائه كما أسلفتُ لك…  منذ أيام انتهت مدّةُ العقد، والشقة السكنية أصبحت مُلكًا شخصيّا لذلك الرجل وزوجته…  وقد تقدما للمحاميّ بطلب رفع الوصاية عنك… قد يقفزُ سؤال إلى رأسك الصغير لتقولَ لي

 " لِمَ لمْ آخذك منهم ؟!! "…  وأنا أجيبك الآن يا صغيري العزيز…  حاولتُ انتزاعك من ذاك الرجل لكنّه هددني بالقتل تحت جنح الليل…  أمّك كانت وحيدة لي ، وجدّك مات شابًا.. أعلمُ أنّك قد لا تستطيع فهمَ كلَّ هذه الأمور، لكنني مضطرة لتوضيحها؛ فأنت ولد ذكيّ، وتجربتك المريرة جعلتْك تكبرُ رغمًا عنك…- صمتت قليلًا وهي تجفف ما سالَ من أنفها ثم تابعت... -  سأضطر إلى أخذك لدار الأيتام ريثما أتمكّنُ مع المحامي من تسوية أوضاعك في السجلات الشخصيّة، وإثبات بُنوَّتك لأبيك…  هذه إجراءات قد تقتضي وقتًا ليس بالقصير يا ولدي…  سآخذك إلى بيتي بعد إنهاء كلّ هذه  الأمور....


مرّت شهورٌ على لقائنا ذاك، وها أنا أقبع في سجنٍ فيه من الظلمِ ما لا أستطيع وصفَه؛ فهنا أطفال لا رحمة في قلوبهم، وعلى الرغم من أنّ جدتي هي مديرته، لكنها لم تستطع حمايتي في الليل من هؤلاء الوحوش؛ حتى أن البيت الذي عانيتُ فيه شتى أنواع العذاب، بدا لي مقارنة بما أقاسيه هنا، في هذه الدار المأفونة، جنة نعيم… . لمن يقرأ رسالتي هذه :

- أبي… . أحبّك جدًا مع أنني أعرف أنّك لست كذلك… .!!

- أمّي تمنيتُ لو أنّك في لحظة ما ، ضممتني إلى صدرك .. .. لكن هذا لم يحدث قط..!! 

هذه آخر كلماتي ولحظاتي في دنيا العذاب ..

- عذرًا على الأخطاء الإملائيّة، فأنا طفل صغير… !!


أتمَّ الضابطُ قراءة الرسالة،ونظر إلى مديرة دار الإيتام بحنوّ؛ كفكفَ دموعَه وأمر بإنزال جثّة الطّفل المشنوق أحمد وإرسالها للطبيب الشرعي… 

رعد محمد المخلف.  سوريا


تعليقات

المشاركات الشائعة