فقط عانقيني: بقلم رعد محمد المخلف

 قصة قصيرة


فقط عانقيني..!! 


مرَّ شهران، وأنا لا أعرف للنوم طَعمًا ولا سبيلًا؛ فالاختبار الذي مرَرتُ به كان قاسيًا جدًا، بالنسبة لطفلةٍ صغيرةٍ في عمري، لا أكاد أنْ أُغمِضَ عيني، حتى يأتيني خيالُه مبتسمًا، فاتحًا ذراعيه لمعانقتي، لكنّه سرعان ما يختفي؛ فأستيقظُ دامعةَ العينين، أنْحَبُ بصمتٍ كي لا ينتبه إليَّ والداي، فخوفهما عليّ شديد، وحزنهما لا يُوصَفُ بكلمات، وخاصّة بعد خروجي من المستشفى ونجاح العملية، فقبلَ شهرين من الآن، وبينما كنتُ ألعب في حديقة المنزل، شعرتُ بشيء يقبضُ على قلبي، وانتابتني حالة من الوَهنِ جعلتْني أسقطُ أرضًا مغشيّا عليّ، ولم أفتح عيني، إلا في المستشفى، حيث استلقيتُ على السرير، وكمامة الأوكسجين على وجهي، وصوتٌ ما يرنُّ بانتظام بجانبي ، حرّكتُ رأسي اتجاهه، فعرفتُ مصدرَ الصوت ذاك، إنَّه جهاز قياس نبضات القلب، لم أفهم بداية الأمر، ما الذي حدثَ ، ولا حتى ما يجري، ولِمَ كلُّ هذه الأجهزة حولي..!! حتى دخلَ الطبيبُ بابتسامة حانية، نظرَ إلى الجهاز الطنّان، وقرأ ورقة رفيعةً شديدة الطول ملفوفة كالبكرة، نظر إليّ وقال بلطف وهدوء ، بأنّ الخطر الأوليّ زال، وبعد وقت قصير سينقلونني من غرفة العناية المُشَدّدة، إلى غرفة أخرى تضمُّ الكثير من الأسِرّة والأطفال، مِمَّن هم في سِنّي تقريبًا، غادر الغرفة بعد أن كتبَ بعض الملاحظات في الدفتر المُعَلّقِ على حافة سريري وذهبَ تتبعُه الممرضة التي لمْ تنطق بحرف واحد طيلة الدقائق التي قضاها الطبيب في الغرفة.  حلَّ المساء وحانَ موعدُ نقلي إلى مكان آخر، وحين أخرجوني إلى البَهْوِ، كان والداي بانتظاري، فَرَحُهما كان كبيرًا، لم يُنغّصه سوى الدموع التي سالت كالنَهر على خدّيهما؛ ورأيتُ تلكَ اللّهفة التي جعلتْهما ينقَضّا على السرير لتقبيلي، لكنّ الطبيب الحريصَ ، منعهما على الفور، وأبعدهما عنّي بلطف، وهو يتمتمُ بكلمات، أجبرَتْ أمّي على الأنصياع لها والتَنحّي جانبًا، وبابتسامة ارتجفتْ معها شفتاها، والدمعُ يسيلُ مدرارًا، ليفيضَ عن وجنتيها ويقطرُ من أرنبة أنفِها. وصلتُ حتى آخرَ الممرِّ ووالداي يسيران خلفي، لا تفارقُ عيونُهما سريري، وعلى الرّغم من صعوبة رؤيتي لهما، بسبب الكمامة، والزاوية الضيّقة لمجال رؤيتي، إلّا أنني استطعتُ قنصَ تلك اللّحظات والصوَر.

في اليوم التالي صحوتُ من نومي، وإذ بي بغرفة فيها ثلاثة أطفال، كانوا أترابًا لي تقريبًا، يستلقون على أسِرَّتِهم بهدوء وسكينة، رؤوسهم حليقة بلا شَعرٍ، واللّون الأصفر على وجوههم لا يخفي نفسَه. كانوا قد أزالوا كمامة الأوكسجين عني، مما أتاح لي فرصة الإعتدال في سريري، رفعتُ يدي مُحيّية إيّاهم، وقد ردّوها بلطف باستثناء واحدٍ منهم، لمْ يأبَه لوجودي؛ ولمْ يكلِّفْ نفسه عناءَ النَّظرِ إلي.  كان واجمًا مهمومًا عابسًا، ينظر إلى سقفِ الغرفة باستمرار، وحين حاولتُ إعادة التحيّة، لم يستجبْ كالمرّة الأولى.  تعرَّفتُ إلى الصبيّين الآخرين، وعلمتُ أنّهما مريضان بسرطان الأطفال كحال زميلهما الثالث، حينها لمْ أفهم سببَ وجودي بينهم، فحالتي كما أظنُّ تختلفُ عن حالتهم، كما بدا لي من خلال جهاز القلب الطنّان ذاك، حتى جاءتِ الممرضةُ، لتُبَرّرَ سبب وجودي بين هؤلاء الأطفال، حيث أنّها شرحتْ لي أنّ الأسِرّة المخصّصة لمرضى القلب غير شاغرة، مما اضطرّهم لوضعي في قسم مرضى السرطان بشكل مؤقَّت. مرَّ يومٌ آخر ونحن نتلقّى العلاج المناسب، وقد ذهبنا برفقة الأطباء معًا لإجراء الفحوصات اللّازمة، وطِوال الوقت، كنتُ أنظر إلى ذاك الولد العابس وكأنّه جنديّ عاد من ملحمة عظيمة للتوّ. حاولتُ التقرُّب منه بالسؤال عن صحته وكيف يشعر، لكنّه نظر إليّ، ببرود لاذع لمْ أفهم سببَه، فقد كنتُ لطيفة معه وعرّفته باسمي، دون جدوى، وحين كنّا نعود إلى أسِرَّتِنا، نحاول تجاذب أطراف حديث شيّق مع بعضنا، كأن نتكلَّمَ عن الألعاب الالكترونية والأفلام المتحرّكة المضحكة، لكنّه استمع لنا ولم يشاركنا الحديث. مرَّ أسبوعٌ كاملٌ وبقينا أنا والعابس في الغرفة لوحدنا، فالطفلين الآخرين، كانا قد حصلا على تصريحين بالخروج من المستشفى، على أن يراجعا في الوقت المحدّدِ لتلقّي الجرعة الكيميائية، التي سمعتُ الطبيبَ يوصي ذويهما بذلك. 

في مساء ذاك اليوم نظرَ إليّ فجأة وقال: 

- اسمي ( جَسور )…  أنا مريض سرطان كما تعلمين…!!  حالتي صعبة العلاج…  ومقامي هنا، لعلّه يطول…… 

صمتَ وعاد ليستلقي من جديد.  بقيتُ أنظرُ إليه بُرهةً، وأنا لا أصدّقُ أنّه نطقَ أخيرًا… 

في الصباح جاء والديّ لزيارتي في الموعد المحدّد للزيارات، وبرفقتهما طبيبي، كانت أمّي تبكي بحرارة، كذلك والدي الذي حاولَ بفشلٍ إخفاء دموعِه، اصطحباني إلى حديقة المستشفى، حيث جلسنا على أريكة خشبية تحت  ظلِّ شجرة، يضمّني والدي تارةً، وتأخذني أمّي إلى حضنِها تارةً أخرى، والطبيب يحاولُ قولََ شيئ ما، لكنّ الكلمات كانت تضيعُ كلّما حاول ذلك، بعد مُضيّ نصف ساعة ونحن على هذا الحال، ودموعي تتناغم مع دموعِ أمّي وأبي، قام الطبيب وجلسَ القرفصاء أمام ركبتي، وقد أمسكَ بيديّ بلطف وقال: 

- صغيرتي…  حالتك الصحيّة، تتطلّبُ زرعَ قلب جديد لكِ؛ ونحن ننتظرُ متبرّعًا، وهذا ليس بالأمر السهل….  سنفعلُ كلَّ ما بوسعنا فعله لإنقاذك… . صغيرتي…  أنت كبيرة بما يكفي لتفهمي ما أقوله أليسَ كذلك؟!

هنا انفجرتْ أمّي بالبكاء ثانية، وتبعها أبي بالنحيب.  كانت صدمةُ الكلمات قاسية عليّ، لكنني، ابتسمتُ واحتضنتُ والديّ اللذين كنتُ أجلسُ بينهما، كي أهدِّأ من روعهما. 

لمْ تَكُنْ المشكلة في النقود، فوالدي تاجر كبير ويمتلك مصنعًا ضخمًا، سمعتُه حين عُدنا أدراجنا إلى غرفتي يقول للطبيب بأنّه مستعد لدفع حياته ثمنًا لإنجاح العملية والحصول على قلب مناسب لي، في الوقت الذي كانت أمّي تسير برفقتي ممسكة إيّاي من كتفي، تشُدُّ أصابعها عليه، كلما سمعتْ كلمة ( القلب ). مرّ يومان آخران، وأنا اخضع للتحاليل كلّ يوم، وكذلك ( جَسور ) الذي كنّا وإياه نخرجُ صباحًا من غرفتنا برفقة الممرضين، لنفترق عند آخر الممرّ، فكلُّ مِنّا له قسمه الخاص به، لكنّني لاحظتُ في المرّة الأخيرة، وفي لحظة تكاد أن ترقى إلى سرعة البرقِ، أنّه التفتَ إليّ وابتسمَ بحلاوة، شعرتُ أنّه غاية في الوسامة بالرّغم من نحالة جسدِه واصفرار وجهه. في صباح اليوم التالي حضرَ والديّ برفقة الطبيب، وعلاماتُ السرور بادية على وجوههم، قَبَّلتْني أمّي وطوّقني والدي، بينما الطبيب بادرَني بالقول وهو يزُفُّ إليّ خبرَ وجودِ متبرع لي بقلبه، وأنَّ العملية ستتمُّ بعدَ يومين، ريثما ينتهون من الإجراءات الطبيّة والقانونيّة. 

في المساء جلسنا كلٌّ على سريره، ننظرُ إلى بعضنا بصمت، وللحقيقة أقولها، كان يختلس النظرات إليّ بخجل، لكنّني لم أرفع عيوني عنه، كأنّ شيئا ما كان يشُدُّني إليه، وحين سألته عن سبب وجومِه وحُبِّه للسكوت، أجابني بارتعاش وقد تغضّن وجهه، أنّه عانى الأمرّين مع هذا الداء الذي قَوَّضَ حياته، وقتلَ طفولته، هذا المرض السرطاني الذي حرمه اللّعب كبقية الأطفال في الشارع، وقبْلَها حَرَمَه القدرُ من أبيه الذي ماتَ بالسكتة القلبية فجأة، أمّا أمّه فقد تزوجتْ من رجل آخر لتستطيع إعالته،  وطفقَ يبكي؛ ولأوّل مرّة أراه فيها ضعيفًا، وتمتمَ لي بكلمات خرجتْ من خلال العَبَرات، أنّه يفضّل السكوت على الكلام، فلا كلام يجدي مع هذه الحياة البائسة.  

في صباح اليوم الموعود، جلسنا كعادتنا، على طارف سَريرينا، أنظرُ إليه وينظر إليّ، لكن في هذه المرة، لم يكنْ يختلس النظرات، بل كان يطالعني بحنوّ وشبح ابتسامة خجولة على مبسمِه، وقفَ وسار نحوي بثبات، ووقفتُ بلا إرادة منّي وخَطوتُ نحوه، وعندما أصبحنا وجهًا لوجهٍ قال: 

- اتمنى من كلِّ قلبي، أنْ تتمَّ العملية بنجاح، وأنْ تعيشي حياة سعيدة ومديدة.. - صمتَ قليلًا وقد بدأ صوته يرتجف ودموعه تنساب فوق خدّيه ثمَّ تابع - أخشى أنْ لا يسعفني الحظُّ بلقائك ثانية….  !!

عندها تقدّمتُ منه أكثرَ حتى باتتِ المسافة أقربَ ما تكون بين عزيزين، وقلتُ له: 

- بل سنلتقي يا صديقي… سنلتقي وأنا واثقة من أنّنا لن نفترق بعد اليوم…  سأطلب من والدي مساعدتك كي يتحمّل نفقات العلاج، ولا حاجة لنقود الجمعيّات الخيريّة بعد الآن…  

نظرَ إليّ بحنوّ وتمتمَ: 

- أجَل… . لن نفترق…!!…  قبلَ مغادرتك… . أريدك أنْ تعانقيني….  فقط عانقيني… !!

وبامتثالٍ تامٍّ لِما طلبَ، عانقتُه بقوّة، وكذلك هو، بكينا مُسندين رأسينا إلى أكتاف بعضنا، ولم نلتفتْ إلى الزمان والمكان، كلّ ما كان يهمّنا في هذه اللحظات، أنْ نكون معًا للأبد، قطعَ علينا هذا العناقَ، الممرضون الذين حضروا من أجلي وأجله، فلديه جلسة علاجيّة، هو الآخر هذا اليوم. 

يعد مرور شهر كامل على العمليّة التي تمّتْ بنجاح، توسّلتُ لوالدي كي يأخذني إلى المستشفى حيث صديقي (جَسور )، تَحَجَّجَ بأوامر الطبيب، وخطرِ الخروج من المنزل، ووجوب ملازمتي الفراش، إلّا أنّه رضخَ للأمرِ بعد أنْ أخذتُ بالبكاء بحُرقة.  وصلنا إلى المستشفى، وأخذتُ أسيرُ بخطى بطيئة، مستندة إلى ذراع والدي، باتجاه غرفتنا، فوجدتُ سريره فارغًا، ولمّا أصرَّ والدي للعودة إلى البيت بحجّة أنّ الشاب قد خرج من المستشفى لشفائه من المرض، أَلَحَحْتُ على رجائي لوالدي كي ألتقي بممرضة ( جَسور )، وحين قادني إليها، فَرِحَتْ لرؤيتي، وعندما سألتها عن (جَسور )، أخفَضَتْ رأسها، وبدأتْ تبكي رُغمًا عنها؛ رفعتْ رأسها وقالت: 

- يا صغيرتي…!! … . جَسور لمْ يَعُد بيننا….  !!

- هل غادر المستشفى… ؟!! 

- نعم…  غادرها إلى حيث الخالق العظيم..!!

بدأتُ شفتاي ترتعشان وأنا أبكي، وسألتُها: 

- هل استسلم للمرض… ؟!!

- كان شفاؤه شبه مستحيل يا صغيرتي…!!  وقبلَ أن يقتله المرض - شهَقتْ بحسرة -… .أهداك قلبه الصغير .… .!!

#رعد محمد المخلف.  سوريا


تعليقات

المشاركات الشائعة