انا وذكريات الطفولة: بقلم رعد محمد المخلف

 أنا وذكريات الطفولة ( بقلمي )

شجرة رأس السنة 

التاريخ : نهاية عام 1974. 

اخذ الطقس يزداد سوءًا ، والهواء اللّاسع برودة، كلّما أظلمت السماء أكثر فأكثر، وأنا لازلتُ أقف بقامتي الطفولية القصيرة وجسدي النحيل على الرصيف المقابل لدارنا ، رافعًا رأسي نحو نافذة جارنا النصراني (سامي) ،لأمتّع ناظريّ بجمال شجرة رأس السنة خاصّتهم وهي تقف وراء الزجاج مزهيّةً بأضوائها وكراتها الزجاجية الملوّنة، وألعاب بابا نويل الصغيرة المعلّقة على أغصانها.  لا أذكر كم مرَّ من الوقت وأنا واقف بهذا الشكل، ولكنّني أعرف تمامًا أن اصابع يديّ كانت مزرقّة ، وقدماي مجمدتان خاصّة قدمي اليسرى لكون فردة الحذاء كانت مقضومة في مقدمتها ، مما جعل أصابع قدمي تلامس اسمنت الرصيف بشكل مباشر، وأمّا ثيابي التي كانت مخصّصة لغير فصل الشتاء ولا شك ، فقد اكتسبت قساوة من نوع غريب. كل هذه الامور تهون أمام متعتي وأنا أنظر إلى تلك الشجرة الرائعة، وبينما انا منهمك بمراقبتي لها والسؤال يحدوه السؤال، كيف للأضواء أن تعمل هكذا وبتراتبية فائقة، قطع تأملاتي صوت أجش ، عرفتُ صاحبه من ساعتي ، وقال: أنت أيّها الصّبي، أغرب عن وجهي وابتعد عن نافذة منزلي ... هيا...


نظرتُ إليه نظرة المستغرب ولكن لساني كان منعقدًا من شدّة الخوف والبرد معًا ، إلّا أنني لم أبارح مكاني، فتقدّم منّي وأمسك بعضدي ودفعني باتجاه منزلي. 


مشيت خطوتين ونظرتُ ورائي عَليّ أجده قد ولج إلى داره وهذا ما أسميه حيَل الطفولة، إلّا أنني صُعقتُ حين وجدتُه متسمّرًا في مكانه يراقبني والحقد يكاد أن يقتله. 


تابعتُ خطواتي حتى وصلتُ باب دارنا الخشبي المُغلّف بالصفيح، دفعته وولجتُ فيه ، إلّا أن خبث الطفولة جعلني أقف وراء شق الباب الذي تركته بحيث أرى الجار الخبيث ولا يراني. دخل جارنا "سامي" إلى بيته؛ فركضتُ إلى حيث كنتُ، لِأعاوِدَ غزلي مع الشجرة الجميلة، لكنّ هولَ المفاجأة صعقني حين أطلَّ جارُنا من وراء زجاج النافذة التي تقف فيها الشجرة، حملق بي وزورني وأسدلَ الستار على النافذة حاجبًا عنّي الشجرة بكلّ جمالها، لكن الستار الأبيض تعاطف مع طفولتي فعكس الأضواء على نسيجه.


 لم أعد أحتمل البردَ القارسَ، فقرّرتُ العودة إلى منزلي ودخلتُ إلى الغرفة الدافئة التي كانت أمي تجلس فيها وقد التف إخوتي حولها وبادرتني : يا ويحي…  يا بني اين كنت؟ لمستْ يداي ونظرتْ إلى قدميّ المزرقّتين وقالت : أكعادتك كنتَ تنظرُ إلى شجرة الجيران في هذا الطقس البارد..أليس كذلك؟ ماذا دهاك يا بني؟


رميتُ بنفسي في حجرها الدافىء وقلتُ : أمي ... لماذا لا نملك شجرة مثلها؟!.

نظرتْ إليّ بحنوّ ، وقد ضاعت الكلمات على شفاهها، وتغضّنت قسمات وجهها، واغرورقت عيناها بالدموع وقالت : هم نصارى ونحن مسلمون .مرّت السنون تلو السنين وأنا لا أجد رابطا بين الدين وشجرة رأس السنة المزدانة بالأضواء و الألعاب . 


الآن وقد كبرتُ وأنهيت تعليمي وأصبحتُ مهندسًا، وتزوجتُ وأنجبت أولادًا ، حققتُ أحد حلمين، أولهما : اشتريتُ شجرة رأس السنة وألبستُها أجمل الحُلل والأضواء، كما وأمارس طقسي الطفولي حتى الساعة بجلوسي أمامها والتمتع بمنظرها، أمّا حُلمي الآخر لا يزال معلّقا لا أستطيع تحقيقه حتى اللحظة ألا وهو، أن ألتقي بجارنا النصراني "سامي" ( الذي رحل عن حيّنا بعد عدة أشهر من ذات العام قاصدًا مدينة حلب)، لأسأله سؤالًا واحدًا فقط: ما الذي كان سيخسره لو انه تركني أنظرُ إلى شجرة رأس السنة ولو من على الرصيف، وماذا  لو تركَ الستارة ولم يسدلها؟!! .ولا اظنني سأحقق هذا الحلم ...

                

✍️ رعد محمد المخلف.  سوريا


تعليقات

المشاركات الشائعة