ليل دائم: بقلم رافع الفرطوسي

 قصة قصيرة

ليلٌ دائم

لستٌ متأكداَ فيما إذا أصبحتُ أكره المرايا كثيراَ , أو انني أكره ما أراه فيها , فعلى كل حال أنا اتجنبها كمحاربٍ يتحاشى الرصاصات المميتة ,عقدُ من الزمن مرَ ومازال الجرح ظاهراَ في ملامحي , في احمرار عينيَ شبه الدائم , في الذبول الذي يجعل وجهي كلوحةٍ عنوانها اليأس وفي ابتسامتي الغائبة أبدا .

عقدُ تغير فيه كل شيء بي وحولي تغيراَ لا رجعة فيه , كل ما كنت أعتز به و أظنه مصدر قوة لي , صار نقمةَ وسبباَ في ضعفي الذي أصمد بوجهه عبثاَ كي لا ينهار ما تبقى مني.

في غرفتي الكئيبة هذه , أجمع كل الاشياء التي يمكن رؤيتها من زاوية واحدة , وأبعد تلك التي تعكس الضوء , حتى إن عالمي صار رمادياَ ليروي قصة احتراقي.

قد كنتُ وما زلت أؤمن بأنني إنسان بكل التفاصيل , على العكس من الذين حاولوا اعطاء نسبة مئوية لإنسانيتي ساعين بذلك الى اثبات نظرياتهم بقصصٍ من الماضي السحيق , وإن صحت فالعيب فيها وبمن تبعها الى اليوم .

يتاح للكثيرين ما لا يتاح لي , ويحِل لهم ما حٌرم عليَ , وحين أسأل لماذا ؟ فهناك جوابان للمسألة, فأما يتم تشغيل الأسطوانة ذاتها – احدى قصص تاريخ الاعراف الذي جعلوني أمقته , أو يطلب مني أن انظر في المرآة قليلاَ !

فكم من فرصة عملٍ ضاعت , وكم من رفقةٍ تشتت , والسبب حتماَ سيكون ما اشاهده في المرايا , ضاع الكثير حتى آمنت بأن الفقدان جزء من محاولتي لإثبات التكامل , قاومتُ بصبرٍ اسطوريٍ عسى أن يحدث ما من شأنه تبديل الحال, إلا أن صفعة أخيرة ختمت الأمر بختم الخذلان الأبدي , ضربة كانت كتصويتٍ بأغلبية مطلقة , لن يكون لي ما أريد , سيكون لي ما يريدون فحسب .

عامان من العشق النقي لم يكونا بالسببِ الكافي لإقناعهم بأنني سأحبها و أصونها ما حييت , وصرخاتها لم تجدي نفعاً أو تستحضر عطفاً , فلقد بدا الوجوم على وجوههم ما إن دخلت الدار خاطباَ إياها , نظرات متباينة في أوقح العيون التي شهدتها في حياتي , فمن شابٍ ينظر بسخرية , الى آخر يشيح بناظريه عني كمن يحاول تجنب النظر الى جثةٍ متفسخة , ومن شيخٍ يراقبني كمخبرٍ سري يسعى للوشاية بي لدى السلطة , الى آخر يتهكمُ بكل الوسائل .. حتى سمحوا لي بتقديم طلبي.

وما إن أتممت كلماتي الخمس حتى بدأ الضجيج يثارٌ كلحظةِ انتفاضة الجمهور بعد صافرة الحكم الأخيرة , لم أكن اعرف الى من سأصغي , فالكل يوجه لي كلماته كسهامِ تصيبُ أنى تشاء , غير ان ما بدا من الردود إنها أجمعت على رفضٍ قاطعٍ , تمكن أحد شيوخ الجلسة من اسكات الجميع بعد جهدٍ جهيد .

كان أبهاهم طلعةَ , وأكثرهم وسامة وهدوءَ , وهو الوحيد الذي تبسم لمرة أخيرة بلا سخرية قائلاَ على طريقةِ الحكماء :

- بٌني , ثم صمت ليتأكد من عدم وجود رد فعلٍ لتلك الكلمة , واسترسل :

- لن أرد عليك كما يفعل الرافضون عادةَ لأقول بأننا ليس لدينا أبنة للزواج , نعم لدينا ولكن سيتزوجها من يناسبنا بكل التفاصيل .

- سألبي كل طلباتكم

اتسعت مساحة ابتسامته حتى تمكنت من معرفة اي من أسنانه قد ترك مكانه .

- لدينا شرط لا يتوفر بك , ولديك ميزة لا يمكن إزالتها .

- ماذا ؟ لستُ أفهم ما تعني

- أليس لديك مرآة في البيتِ لتفهم سبب رفضنا ؟

تلك الضربة كانت أشد وقعاً حتى من الرفض نفسه , تحسست وجهي الأسود بيدٍ هي الأخرى سوداء فيما الرجل يفتعل السعال بعد أن انهى كلامه , انشغل الحضور بأحاديثٍ لم أتمكن من سماع حرف منها , الطنين في أذني يكاد يفجر رأسي , كانت أمنيتي في تلك اللحظة أن ارى وجهي لأُقيم حجم الذهول في ملامحه وقادني انكساري الى خارج البيتِ الذي يرى ساكنوه الناس من خلالِ المرايا .

* فاز النص بمسابقة لملتقى دار السرد الروائي ضمن محور العنصرية

رافع الفرطوسي

البصرة 2022


تعليقات

المشاركات الشائعة