الرجل الذي يموت كثيرا: بقلم رافع الفرطوسي

 الرجل الذي يموت كثيراً

هذه المرة, أفكر أن أموت بطريقةٍ أفضل وأجمل.

فلطالما متُ و أنا غير راضٍ عن الكيفية التي أموت بها وفي كل مرة كان المنظر يزعجني حتى وأنا ميتاً! صياح وعويل حولي قد أفهم مبرراته ولكني لا أرحب بتهويل الحدث وحتى شكلي كان يبدو مثيراً للشفقةِ والتعاطف.

 

فمنذ تجربتي الأولى في الموت وكان ذلك قبل قرون لا أستطيع تحديد توقيتها بالضبط, المرة التي كنت فيها قتيلاً على يد أخي بصخرة كبيرة ألقاها على رأسي لأسباب دنيوية دنيئة, وصولاً الى آخر ميتةٍ لي وكانت قبل أيام على يدِ أخٍ لي برصاصة في قلبي لأسباب سياسية.

 

تختلف الطريقة في كل مرة ولكن النتيجة واحدة, أراني ميتاً ليتكرر فيما بعد المشهد القبيح الذي أمقته, وعلى كل حال فأنا أنتظر اليوم أمر إطلاق سراحي بعد مراجعات وطلبات ووساطات من قبل (الكارهين)ولست أعجب ان المحبين لم يتقدموا بأي طلب لعلمهم أنني في مكان آمن وانني أفضل حالاً منهم.

 

الهدوء يسود المكان , هذا الذي يطلقون عليه ظلما بالعالم السفلي , وقد أعطيهم الحق في ذلك لأنهم لم يجربوا غير عالمهم وبنظرة سطحية يشاهدون أنفسهم على سطح أعلى من عالم الماكثين في قبورهم- أختفى الضجيج تماماً ولا فوضى في الداخل, والمريح في الأمر أنك لا تسمع ضجة الخارج!

ولكن اعلموا أن هنا أناس سيئون بقدر سوئهم في الحياة والفرق أنهم هنا منبوذين حرفياً ولا يتملق لهم أحد, يعيشون في منفاهم الأبدي دون أمل.

وصلت ورقة الإفراج المشروط الى باب قصري(ذلك الذي تسمونه قبري) , سلمني اياها أحد المارين بالصدفة وهو يحمل قارورة ماء ورد وكتاب سماوي وشمعة واحدة حيث كان ذاهبا نحو قبر ابنه الذي استشهد في حرب الثماني سنوات وأبنه الآخر الذي أستشهد في حرب الخليج الثانية وسيشعل الشمعة بين القبرين ليرصد النور الذي يجمع الحروب والقتلى ثم يفرقهم في قبور شتى!

هذا الرجل لديه أبن ثالث كان قد أخفاه عن الجميع ولما آن أوان قطافه أرسله الى (سبايكر) ولم يعد الفتى منذ ذلك الحين فجاء ليسأل الولدين عما إذا مر بهما أخوهما !

سلمني الورقة وسألني أيضا عن ابنه المفقود فأخبرته أنني مختص بالأحياء الحقيقيين ولا أعرف شيئا عن الأموات فاغرورقت عيناه بالدمع بمجرد ذكر الموت أمامه وقد بدا لي من ملامح وجهه أنه نادم على مساعدتي في ايصال كتاب الإفراج عني.

 

أخذت الكتاب وخرجت مسرعاً , جلست لدقائق بين شاهد قبري وشواهد الرفاق من حولي وبدأت أهيل التراب على جسدي وملابسي لأثبت للجميع انني خارج من قبر, فبهذه الهيئة الجميلة سيشك الجميع بحديثي .

 

توجهت الى آخر شخص دفن جثتي فوجدته يصلي , انتظرته حتى انتهى من صلاته وقلت له : تقبل الله أعمالك بما فيها دفني حياً لعشرات المرات.. ابتسم وقال : باب رزقي ,ولكن يا ولدي اياك أن تعتقد أنني اعيش لكي تموت الناس بل ان الناس تموت لأعيش أنا وغيري!

 

دار حديث طويل بيني وبينه لإنهاء جدلية من هو الحي ومن هو الميت فينا وفي نهاية المطاف قاطعنا شخص ليخبره أن هناك جنازة في الطريق وان عليه ان يتهيأ لدفنها.. فأردف بلهجة المنتصر: أرأيت؟ أنا حي و أدفن من يأتون أمواتاً فما أنت؟

فقلت له : يا سيدي الدفان, ان تساعد في نقل اشخاصا الى عالم آخر لا يثبت أنهم أمواتاً أو انك حي فكل ما يجري بعالمكم وهم وخديعة والحقيقة الوحيدة في هذا الكون تجدها عند الساكنين في الحفر المؤصدة .

 

الحقيقة المطلقة هي ما تسميه أنت والكثيرون غيرك موتاً ,والبيئة الخادعة هي تلك التي تؤويكم بما فيها من اوهام وخيال هي محيط مؤقت جربته شخصياً الاف الالاف من المرات وفي كل مرة اغادره أعد نفسي أنني لن أعود اليه ولكن الفضول يرجعني ,وفي كل مرة اعود أجده عالم أكثر قبحاً و أشد وقاحة لدرجة أنني اقبل مغادرته ميتاُ بأية طريقة و إن كانت صخرة يلقيها أخي على رأسي لأسباب دنيوية او رصاصة في قلبي على يد أخ لي لأسباب سياسية!


رافع الفرطوسي


* النص ضمن محتويات كتاب السردية الخامسة , الصادر عن دار السرد للطباعة والنشر - بغداد



تعليقات

المشاركات الشائعة