خيانة: بقلم رعد محمد المخلف

 قصة قصيرة


خيانة


فتحَ عينيه بصعوبة بالغة؛ وأخذَ ينظرُ إلى ما حوله، لِيَستطلع المكان، وكأنَّه يراه للمرّة الأولى.  كانَ يعاني من الصداع الشديد في رأسه، والألم الرَقَبيّ يكاد أنْ يقتله.  رفعَ رأسه وعدَّل جِذعَه وأسند ظهره إلى المسند الخشبيّ للسرير، محاولًا استعادة ما حدثَ معه ليلة أمس...


خرجَ من البيت الريفيّ خاصّته، ليركبَ سيّارة الشرطة التي استدعاها بوساطة الهاتف المنزليّ، للتحقيق في سرِقة سيارته الفارهة ومحفظته وهاتفه النقّال، من قِبَل فتاة كان قد تعرّف بها قبلَ أيام خَلَتْ.


التحقيق والأسئلة الكثيرة التي وجّهها إليه الضابط، أثبَتَتْ له ضآلة معلوماته عن تلك الفتاة، حتى اسم عائلتها ( الكنية) لمْ يكنْ يعرفُها، مما زادَ في فضول المحقّق أكثرَ وأكثر . 


انتهى الضابط من كتابة تقريره ، وأذِنَ له بالانصراف، بعد أن أخذَ منه أرقام هواتفه ، وأعادَ له البطاقة الشخصيّة لنقابة المهندسين، التي، ولحُسنِ حَظِّه، لمْ تكُنْ في محفظته، بل كانت في جيب سُتْرَته، حيث اكتفى بها الضابط كإثبات لهويّته .. 


عادَ إلى البيت بعد أنْ أمرَ الضابطُ بإيصاله، والأفكار تتقاذفُه من مكان إلى آخر.  فتحَ الباب بهدوء، وكأنّه لصّ يريد سرقة شيء ما، اتجه إلى الحمّام بعد أنْ خلعَ سِترَتَه، وأخذ يغسلُ وجهه.  


نظرَ في المرآة، فرأى شَعرَه الذي خالطَه الشّيبُ، ليتذكَّر أنّه رجل خمسينيّ، وما كان من اللّائق أنْ يقعَ في حُبِّ فتاة تصغُرُه عقدًا من الزمن على الأقل. 

دخل إلى غرفة الجلوس،تهالَكَ على أريكة مريحة، وفكَّ ربطة العنق التي كانت مرتخية، منذ ليلة البارحة، حين كان يجالسُ  تلك الفتاة البيضاء العاجيّة.


لامَ نفسَه كثيرًا، لكنّه عاد ليبِرِّرَ فعلته تلك، بعد أن تذكّر إجبارَ والديه له، للزواج من هذه الإمرأة صعبة المِراس، وأحسَّ بقلبه ينقبضُ حين عادتْ به الذاكرة، إلى الوراء؛ ففي ذات يوم وقبيل زواجه، سمعَ أمّه تقول لأبيه، أنَّ هذه الإمرأة ستحافظ على ولدنا من شرور الدنيا؛ لِما تتمتع من قوّة الشَّخصيّة، والحزم والدهاء والذكاء في معالجة مشكلات الحياة التي قد تعصفُ به يومًا ما، وأنّها ستحبّه لأنها ليست بهذا الجمال الخلّاب، على عكس جمال وبهاء ولدها ..


نعم، لقد كان رجُلًا ضعيف الشكيمة، ولعلّه بمحاولته لإقامة علاقة عاطفيّة بملء إرادته وخياره، كانت كردّة فعلٍ لإثبات وجوده وكلمته، ولكنّه فشلَ حتى في تحقيق هذه الرغبة.. 


قلَّبَ صفحات ذاكرته، وهو يسترجع اللحظات الرائعة التي قضاها مع تلك الفتاة في المطاعم والمُتَنَزّهات، وعلى الرغم من قِلَّةِ تلك الأيّام، إلّا أنَّها كانتْ الأجمل في حياته. 


 تذكّر كيف كان اللقاء الأوّل في بَهْوِ الشَّركة التي يعمل بها، حين ابتسمت له، تلك الابتسامة التي اخترقتْ شِغاف قلبِه من النظرة الأولى؛ فوقعَ في حُبِّها، وهي تسأله بغَنَج عن مسؤول الجباية الكهربائية، حيث رافقها إلى زميله في العمل وطلب منه إنجاز ما تطلبه هذه الحسناء الثلاثينية.


 ابتسم حين تذكّر إصراره على إيصالها للمنزل، وكيف شاءتِ الصُّدَفُ أنْ يلتقيا عدّة مرات في المتْجر وعند بائع الحلويات وفي أماكن أخرى، وكلّ هذا تمّ في غضون أيام قليلة، حيث تبادلا الحديث المُطَوَّل واقفين. 

 

في ذاتِ مرّة التقيا مصادفة كالعادة، تبادلا أرقام الهواتف النقّالة، تحدثا ليلًا أثناء مناوبته في العمل، مرَّ أسبوع، حتى استقر به الحالُ  ليَتَجَرَّأ على دعوتها لأوّل مرة، لتناول العشاء في المطعم، ومنذ ذاك الوقت وهما يلتقيان يوميّا، حتى زادَ به الشوقُ والغرام ليدعوها إلى مكان خاص، بعيدًا عن جميع أعيُن الناس، حيث الطبيعة الخلّابة والريف الجميل والهواء النقي؛ فوافقتْ بعد أن اشترطتْ عليه الزواج بها لاحقًا، وتربية ولدها اليتيم، فوافق دون تَمَنُّعٍ، على الرّغم من دهشته العظيمة حين عَلِمَ أنّها أرملة، وهو الذي كان يظنُّها عزباء. 


 اتفقا على أن يلتقيا البارحة مساءً وقد تمَّ الأمرُ وانطلقا بسيّارته الجديدة الفاخرة، يقصدان عشّ العشّاق الدافئ. 


أيقظه من تَفَكُّرِه، اسمُ زوجته، الذي خطرَ بباله فجأة؛ فكيف سيبرّرُ لها سرقة السيّارة وفقدان محفظته، وهاتفه النقّال، بل وكيف سيبرّرُ لها خيانته التي لم تكتمِل أركانُها حتى..؟!! 


 اعتصر قلبَه ألمٌ عظيمٌ وخوفٌ شديدٌ من غضبها، فهي من ساعدتْه في شراء هذه السيّارة الفارِهة، وقد استقرضتْ قرضًا مصرفيّا حتى يتمكنوا من سَدَادِ ثمنها، فماذا سيقول لها، وعن أيّة مفردات عليه أن يبحث، كي يخفِّف من حِدَّة هِياجها ، وكيف ستكون ردّة فِعلِها وهي التي أفنَتْ عمرها في العيش معه بكل إخلاص ومودّة… ؟!… كيف سيكون موقفه إذا علمتْ بالأمر قبل أنْ يتداركَ الوضعَ ويحلَّ المشكلة المستعصية ..؟!!


 وهنا قفزتْ إلى ذهنُه فكرةٌ جعلتْه ينتفضُ من جديد؛ فماذا لو علمتْ بالأمر بشكل مُسبَق ..؟!!

فهي تعمل محقّقًا في الطبِّ الشرعيّ في قسم الأمن الجنائي؛ وماذا لو أنَّ الخبر قد وصلها الآن عن طريق زملائها… ؟! لكنّ الهدوء عاد إليه نسبيّا، بعد أن تذكَّر أنّها في العمل ولن تأتي إلى البيت حتى الرابعة عصرًا، وقد يجدون الفتاة السارِقة قبل عودة زوجته إلى المنزل ، وبهذا يكون قد سترَ ما اقترفتْ يداه من خيانة لزوجته التي لن ترحمه بالمطلق.


 تَجَمَّدَتْ دماؤه في عروقِه وقد سمعَ صوتَ زوجته تنادي عليه، وهي تدخل إلى البيت دون سماعِ قفل الباب وهو يُفتَح:


- عزيزي..  هل أنت في البيت.. ؟! لماذا تركتَ الباب مفتوحًا دون إغلاق ..؟!!..


بقيَ مُسَمَّرًا في مكانه، وقد اصفرَّ لونه، وضاعتْ علامات الحياة على محيّاه، وكأنَّه سمِعَ للتوّ حُكمًا نافذًا عليه، بالإعدام شنقًا. 


 دخلتْ عليه الغرفة، حَيَّته بابتسام وقالت: 

- أراك قد عدتَ من العمل باكرًا… !!


تلعثمَ وهو يجحظُ بعينيه إليها؛ فتمتَم:


- أرى أنّك عدتِ أيضًا من العمل باكرًا، على غير الموعد المعتاد.. ؟!!


- طلبتُ إذنًا وخرجتُ…  فكّرتُ أن أطبخَ لك اليوم شيئا لذيذًا كمفاجأة، لكنّك أضعتَها بحضورك قبل الأوان… !!


نظرتْ إليه نظرة ثاقبة، وتقدمتْ نحوه، وما تزال تضع حقيبة يدها على معصمها وقالت:

 

- ماذا حدث ..؟!! تبدو بليدَ اللّون..!! 


ردّ دون أن يرفع رأسه المُنَكَّسِ إلى الأرض :


- لقد سرقوا سيّارتنا ..!!


- ماذا…  ؟!!


- سرقوها من موقف السيّارات الذي بالجِّوار..!! 


- ما هذا التسيّب… ؟!!…  أيعقلُ أنْ تُسرَقَ سيارة من موقف مأجور… ؟!!…  سأتصل بزميلي في شرطة المرور حالًا ..!!


أخرجتْ هاتفها النقّال واتصلتْ بضابط زميلٍ وقالت: 


- نهارك سعيد .. نعم هذه أنا…!! ..…  كنتَ ستتصل بي ..!! ... أجل ... أجل…  نعم .. فهمتُ…  سأنتظر اتصالك…  شكرًا لك…  !!


نظرتْ إليه والشَّرر يتطايرُ من عينيها، قبضتْ على شعره بأصابعها بقوّة، وأمالتْ رأسه تجاهها :


- أيّها العجوز الشَّبِق… ويحك ماذا فعلت ..!! تقولُ أنّها سُرقَتْ من الموقِف المأجور أليس كذلك ..؟!! .. ويحك .… !!


كان اللّعاب يتطايرُ من فمها وهي تصرخ في وجهه، حاول أن يفُكَّ عقدة أصابعها من شَعرِه،كما عقدة لسانه،  وحين أفلحَ ، ركعَ أمامها وهو يتوسّلُها :


- أرجوك يا حبيبتي…  أنا أحبُّك جدًا… !! لقد نزغَ الشيطان بي..  أقسم لك أنني لم… .


في هذه اللحظات رنَّ الهاتف النقّال؛ ابتعدتْ عن زوجها قليلًا، وهي تفحُّ كالأفعى وقالتْ: 


- أجل…  أجل… !!…  إذًا الأمر كذلك..!!… فهمتُ…  سأحضرُ حالًا…!! 


وقفَ الزوجُ الوسيمُ الأشيَبُ على قدميه، وقد احمرت عيونُه، اقتربَ منها وقال:  


- أَمَا والحال كذلك، وقد علمتِ ما علمتِ من افتضاح أمري، أعدُكِ وعدًا لا نكوص فيه، وعدَ رجلٍ أخطأ بحقّ زوجته بلا سبب… 


- كم سنة وأنت تخونُني معها ..؟!!


- أقسم لك أنّها المرّة الأولى التي أتعرّف فيها على إمرأة بهذا القرب وعلى هذا النحو....  و ..


- قلِ الحقيقة…  كم أنفقت عليها .. كم إمرأة عرفت أيضًا ..؟!! سأخبرُ الأولاد بقصص غرامك أيّها الخائن… !!


- حبيبتي…  زوجتي .. أم أولادي .. أرجوكِ سامحيني ، لن أكرّر هذا بعدها .. فقط سامحيني… !!


- سيكون الحساب عسيرًا جدًا، وبما أنْ الحياة فيها ما فيها من كبواتٍ وفُرَصٍ ؛ دعنا نعقد صفقة جديدة…  فأنا في عَجلةٍ من أمري…  وعلينا إبرامها بسرعة…  زميلي الضابط ينتظرنا…  لقد وجدوا السيّارة بعد بلاغ جاءهم من قسم الشرِطة، عثروا على محفظتك  فارغة وهاتفك النقّال داخل السيّارة .. استطاعت عاهرتُك الهرب…  !! 


- الحمد لله .. .. أنّهم وجـــ……. 


- إليك الاتفاق :  أوّلًا… ... أن تلتزم بعملك التزامًا تامّا… .. فقد أصبحتَ في الآونة الأخيرة تتغيّب عن عملك .. و ثانيًا… …  أن لا تختلس النَظرَ إلى النساء بينما أكون معك في السيّارة، دون احترام لوجودي معك، ففي كلِّ المرّات التي فعلتَها كنتُ أراك…  أيّها الزيرُ الذي ظهر شَبَقُه  فجأة في عقده الخامس…!! أهي مراهقة الشيخوخة أمْ ماذا… ؟!! .. هل تقسم لي أنّك ستنفّذ اتفاقنا إنْ تمَّ……  وسيتمُّ رغمًا عن أنفِك… ؟!!


- أقسم لك أنّني لم أمسسها .. نعم …  أعترفُ  أنّني حاولت ولكنّها خدعتني… ولمْ … .


- انتهى الأمر .. هيّا بنا لاستعادة سيّارتنا .. أيّها الزير… !!…  كنتُ أنوي فَضْحَكَ أمام الأولاد… لكنّي سأراقب سيرَ الاتفاق أوّلًا..!!


في اليوم التالي، جلستْ زوجتُه في مكتبها وحولها زميلاتها في العمل ، وأخذن يضحكن بصوتٍ عالٍ ، قالت الشقراء البيضاء الجميلة: 

- هل أعجبك الدور الذي مثَّلْتُه مع زوجك يا سيدتي ..؟!!


- شكرًا لك يا عزيزتي ، فقد أعدتِ لي زوجي ، وبفضلك سأعيش معه إلى نهاية العمر…  فأنا أحبُّه جدًا، وكان عليّ أن أحافظ على والد أبنائي، فهو حبيبي .. وهو صديق عمري…  خرج عن طريقه القويم ،  وشعرتُ بِتَفَلُّته من بين يديّ ، وكان لزامًا إعادته إلى أحضان الأسرة…  وهذا ما كان لِيَحْدُثَ لو لمْ أزرعكِ في طريقه زرعًا…  أنتِ بارعة في إيقاع الرجال، وماهرة في دسِّ المخدّر في الشراب كذلك… 


#رعد محمد المخلف. سوريا


تعليقات

المشاركات الشائعة