شبح في دار النشر الجزء الأخير: بقلم رعد الإمارة

 شبح في دار النشر (الجزء الرابع والأخير) 


لاحقني صوتها وأنا أحدّق في مياه نهر دجلة، قالت :

_ماذا؟ هل تفكر بأن تلقي بنفسك في دجلة المسكين هذا! وماذا عني، من سيعتني بي؟. اشتدّتْ قبضتي على افريز الجسر، التفتُ برأسي، كانت ترتدي بنطالاً أسود هذه المرة، أما قميصها الأصفر الطويل فكانت ازراره تلمع تحت وهج شمس الصباح، تنهدت وقلت وأنا اهزُّ رأسي :

_ربما أفعل، ما يدريك بما يفكّرُ الكتّاب أمثالي، وقد يفعلها الناشر المسكين قبلي. قلت هذا واتكأتُ بظهري لأفريز الجسر وأنا أضحك، اوه، ماذا فعلتْ، غيّمتْ ملامحها الحلوة التي ارهقني وصفها في القصة، قلت :

_أمزح معك، لا تقطبي حاجبيك هكذا. قاطعتني وهي تمدُّ رأسها محدقة بالمياه التي طَفتْ بعض طيور النورس على سطحها:

_أنا أعرف أن صديقك منزعج مني، لاحظت ذلك من شفتيه المزمومتين دوماً، حتى أنتَ منزعج، لكنك تخفي ذلك خلف ضحكاتك الكاذبة. وضعتُ يدي برفق على ظاهر كفها، ارتدّتْ للخلف وهي تهزُّ كتفيها وقالت :

_أليس من حقي أن يراني الناس الآخرين، ليس فقط أنت والناشر، أحبُّ أن اصفّف شعري، أحب أن يشير لي بعضهم بأني جميلة، لاتعرف كم أشعر بالوحدة، أنا آسفة لقولي هذا. أخذ قلبي يخفق بشدة، ياه، وانا الذي ظننت بأنها في قمة السعادة، قلت :

_عزيزتي، سامحي غبائي، هل لكِ أن تغفري لعزيزك. مَسحتْ بطرف اصبعها دمعة كادت تتلف كحلتها الحلوة، هزّت رأسها وهي تشرق بضحكتها :

_فقط إذا اعدتني للحياة، أنت - مدت سبابتها ومسّتْ مكان القلب برفق - أنت جعلتني أموت، كيف سَمحتْ لك نفسك، بأن تتركني أموت بهذه البساطة؟ هكذا، تدهسني سيارة مسرعة، وتحضنني في الشارع، يا لخيالك هذا! عليك أن تصحح الخطأ. ادهشني منظرها الجاد، كانت عيناها مذهلتا الجمال وقد انعكس نور الشمس فيهما، يا إلهي، لقد أبدعتُ حقاً في وصف بطلتي كما أريد وتريد!. اخرجتني من دوامة التفكير بأن َدنتْ مني والتصقت بي، قالت وانفاسها تكاد تذيبني :

_لاغداء هذا اليوم، ليس قبل أن تعيدني للحياة. قبل أن أرد او التفت صوبها، كانت قد تلاشت مثل حلم. وضعتُ يدي، موضع قبضتها على الأفريز، اغمضت عيني، لا أعرف لكن ضحكتي وهي تنطلق، جعلت طير النورس القريب بتحليقه مني، يجفل ويرتد وهو يزداد زعيقاً. حدقت من خلال زجاج المكتب الطويل لصديقي، كان مشغولاً بالحديث مع رجل وامرأة، ربما يتفاوضون من أجل طبع كتاب ما، وجدتها فرصة لتدخين سيجارة بعيداً عن تأنيبه،  افسح لي مكانا وامسك بمرفقي، فكرت بأن صفقته كانت ناجحة،قلت قبل تفارقني جذوة الجرأة التي اشتعلت في داخلي :

_آسف لعودتي، قد تكون مشغولاً، لكن من الأخير فالبنت تريد مني إعادتها للحياة، حجتها حتى يراها الجميع، تود أن تعيش حياتها، تأكل وتضحك وتبكي مثل عباد الله، كانت معي عند دجلة قبل قليل. اخذتُ أنقر بأصابعي حافة مكتبه الأنيق، لم ينتزع نظارته لينظفها كما هي عادته، وضع أمامي علبة عصير هذه المرة، مدَّ رأسه للأمام ففعلتُ مثله، قال كأنما يودعني سراً :

_ أنت الكاتب ولست أنا، لا اريد أن أقول هذه مشكلتك - ضحك فجأة - لكن فعلاً هي مشكلتك. وجدته ينهض مستنداً بيديه إلى حافة المكتب، قال وهو يجيل بصره في أرجاء المكان :

_اظن من حقها عليك أن تعيدها للحياة، إنها تستحق، تلك الفاتنة، صاحبة أجمل عيون ملونة. يا إلهي كان يتلفت وهو يتكلم بصوت عالٍ، فهمت الأمر، شاركته مرحه أنا الآخر، كان يريد منها أن تسمع صوته. قلت وأنا أغمزه بعيني :

_سأعيدها ولو كلفني ذلك غضب القرّاء، لابد أن أجد عذراً لأقناعهم، كيف عادت؟ حتما سنجد حلاً لذلك، كما جرت الأمور مع شارلوك هولمز. قلت ذلك ورحت أفرك كلتا يدي، وكأن ما قاله صديقي الناشر، قد أعاد لي نشاطي وبث في ذهني الحياة.  ودعتُ صديقي وأنا أشدُّ على يده، أدركت من بريق عينيه خلف نظارته، بأن البنت لن تضايقه بعد الآن، كان يبدو سعيداً. وانا أسير فوق جسر الشهداء كالعادة، لفح عنقي من الخلف، حفيف بتُ أعرفه، توقفت في مكاني وقد غمرني شعور بالراحة، سمعتها تهمس، قالت :

_تعال خلفي، هيا بسرعة، أريد أن اشكرك. وجدتها مستندة، توقفت اتأملها، كنت الهث، ياه، كم تبدو فاتنة وهي تتأمل النهر هكذا، قلت وأنا ابدي إعجابي بثوبها الأزرق المطرّز بنقط بيضاء :

_ سيتوقف قلبي ذات يوم بسببك. التفتت الي بسرعة، لم تمهلني، وضعت يدها على فمي، قالت :

_لاتتحدث عن الموت أرجوك، أنت لاتعرف ماذا يعني وجودك في حياتي. يا إلهي، كدت أبكي، وضعت يدها على صدرها، قالت:

_ أحبك، أحبك، أنا حبيبتك وبطلتك، أنا المرأة التي لاتموت - ضحكنا معاً - هيا بسرعة، اعدني للحياة، سمعت حديثك مع صاحبك الناشر، سمعت كل شيء.  تقدمت صوبها، التصقت بها بشدة، قلت وأنا أعني ماقلت :

_منحتك يا حبيبتي وعداً بأن أعيدك، هذا المساء سأبدأ بكتابة قصة العودة، لن يهمني ماسيحدث ، حتى لو كان الثمن بأن أكف عن الكتابة بعدها، سيكون ثمناً زهيداً أمام جمال مثل هاتين العينين الملونتين العجيبتين. تفاجأت بما حدث بعدها، رفعتْ البنت، البنت الحلوة، رفعت يدي وقبّلتْ ظاهرها، قبل أن امنعها تلاشتْ، لكني سمعت نشيجاً، تلاه تنهيدة من سيرتاح أخيراً. (تمت 😇)


بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد


تعليقات

المشاركات الشائعة