شبح في دار النشر (الجزء الثالث): بقلم رعد الإمارة

 شبح في دار النشر (الجزء الثالث) 


أوشكتْ علبة السجائر على النفاد،  شعرتُ بألم طفيف في صدري ، اضاءتْ شاشة هاتفي، أعرف تلك النغمة، مددتُ يدي بصورة آلية :

_نعم صديقي العزيز، ماذا تقول، متى حدث هذا؟. لم يعد ثمة مجال بعد، أطلقتُ ضحكتي الكبيرة في وجه أثاث غرفتي الفقير، كان عليَّ تغيير ثيابي بسرعة، صديقي الناشر يقول انها ظهرتْ في وقتٍ مبكّر من هذا الصباح، يا إلهي كم شقية هذه البنت، ستصيب الرجل بجلطة!. وجدته جالساً في مقعده، وقد أسند ذقنه إلى راحة يده، قال دون أن يبتسم في وجهي :

_لقد رحلتْ، ليس عليكَ التلفّت هكذا مثل المجانين، هذه المرة لم تمكث كثيراً، لكنها اخافتني، ليتك رأيت نقرات أصابعها على حافة المكتب . قال هذا ثم أخذ يطرق مرة ومرتان، لم أخبره عن لقائي بها، فكرت أنه قد يعتبر هذا نوع من المؤامرة، وجدته كئيباً، قلت :

_ماذا تريد مني أن أفعل؟ هل أضع نسخ (المرأة التي لاتموت) في أكياس وآخذها معي، مستعد لأفراغ الرفوف ياصديقي، فقط لاتحزن هكذا. لوّحَ بيده في الهواء، كاد ينهض كعادته وهو يقوم بذلك، قال :

_لا، لا تتحدث هكذا معي، لم يكن هذا سر وجومي، أنت كاتبنا المحبوب، أنا فقط مندهش، ففي العادة ياصديقي يظهر شبح المرء للحظات، نسمع حفيفه، صراخه وربما ضحكاته ، لكن ان تظهر شخصية امرأة بلحمها وشحمها من كتاب، يارب السماء، من سيصدقنا؟. قاطعته، رفعت يدي ووضعتها فوق كفّهُ المبسوطة على المكتب، ضغطت بقوة، قلت :

_ماذا تعني! هل في نيتك إخبار الآخرين عنها؟ لا، ستخسرني حينها، لن اسمح بأن تكون بطلتي في خطر، قد يؤذيها الآخرين، لكن أنت، آه، ماذا أقول، أنتَ طيّب وأنا أثق بك. ضحك بوجهي هذه المرة، أخذ يمسح نظارته، همس وهو يدنو بوجهه مني :

_حتى لو عرف الآخرين، صدقني سيتهمونني بالجنون، سأجد نفسي خلف ذلك البناء الكئيب، أنتَ تعرفه. قال هذا ثم غرق في صمت لذيذ وأخذ يتأملني، وجدتها فرصة سانحة، قلت :

_أنتَ لم تخبرني ماذا دار بينكما هذه المرة، وماسبب نقراتها على حافة مكتبك؟. حدّق في وهو فاغر الفم، مالبث أن ضرب بيده جبينه، قال :

_ألم أخبرك ماالذي دار بيننا حقاً؟ يالذاكرتي المسكينة. ابتسمتُ بوجهه، مددتُ يدي عفواً بحثاً عن سيجارة، تتبّعَ حركة يدي وعقد مابين حاجبيه، احمرَّ وجهي، قال :


_احنتْ رأسها وهي تغلق الباب الزجاجي خلفها، توَجهتْ بنظراتها صوب الرف الكبير الذي يضم مجموعاتك، ألقتْ نظرة على بقية الرفوف وزمّتْ شفتيها، ثم ياصديقي مدّتْ يدها لحقيبتها المعلقة في كتفها وأخرجتْ منديلاً ازرق اللون هذه المرة، لكن العجيب أنها استدارت نحوي ثم بخطوات سريعة وقفتْ هنا - أشار لحافة المكتب - نعم هنا تماماً. أخذ صديقي يهزُّ رأسه وقد كفَّ عن الكلام، تركته يمسح بمنديل ابيض زجاج نظارته، للمرة الثانية ، التفتُ برأسي صوب رف الكتب، ياه نظيفة ومرتبة مجموعاتي ، اعادني صوته من عالم الخيال، قال :

_أزالتْ الغبار عن مقعدك هذا، ظننت أنها في سبيلها للجلوس، لكن تعرف النساء! غيّرتْ رأيها ووجدتها تقف في مواجهتي وأخذتْ تنقر حافة المكتب، بصراحة راقني منظر تلك الأصابع النحيفة، وكأنما شَعرتْ بما يدور في بالي ، كفّتْ عن الطرق وقالت بصوت عميق اخّاذ :

_المرأة التي لاتموت، تلك المجموعة ذات الغلاف الأحمر - أشارت بأصبعها - لايجب أن تنفد، هل لديك غيرها؟. قالت ذلك دون أن تبالي بالدهشة الكبيرة التي ارتسمت على ملامح وجهي، وجدت نفسي حين رفعت رأسي، محدقاً في عينيها الملونتين، عاجزاً عن النطق، وبصدق يا عزيزي شعرتُ ببعض الخوف، فكرّتْ بأن امزح معها قائلاً :

_هذه التي في الرف هي آخر مالدينا. لكني بسرعة البرق طردتُ هذه الفكرة عن ذهني، وبطبيعة الحال قلت وأنا امنحها ابتسامة كبيرة من فمي :

_لدينا في المخزن مائة نسخة، وسنقوم بطباعة المئات غيرها. عندها يا صديقي صفّقتْ بيديها مثل الأطفال، أما ماذا فعلتْ بعد ذلك فلاشيء، سوى إنها قرَصتْ خدي بخفة ولطف ثم تلاشتْ مثل السحر. (ملاحظة :يتبع للجزء الأخير )


بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد


تعليقات

المشاركات الشائعة