مطار في حافلة: بقلم رعد محمد المخلف

 قصة قصيرة


/مطار في حافلة/    

  

  ليتني أعرف من الذي دعا عليّ ذات يوم كانت فيه ابواب السماء مفتوحة، حتى يُقبَلَ الدعاء مباشرة :  ” اللهمّ لا تجعل عبدك هذا إلّا راكبًا للحافلات إلى يوم الممات “… أي نعم يا جماعة الخير فأنا منذ أن كنت طفلا لم أعرف طعمًا للمواصلات إلاّ على ظهور الحافلات، وحتى عندما اشتغلت لم أستطع أن أوفّّر قرشًا واحدًا لأشتري به وسيلة نقل خاصة.. لذلك فقد أسلمت أمري للّذي خلقني أوّل مرّة، ورضيت بالحافلة وسيلتي الوحيدة لنقلي من مكان لآخر ومن مصيبة لأخرى أيضا.. فركوب الحافلات أربع مرّات يوميّا لابدّ وأن يُوقع المرء في مشاكل لا حصر لها خاصة مع رجل مثلي يُعدّ – ولا فخر- مَصَبًّا لبَلايا الدنيا ومصائبها..

على كلّ.. عليكم أن تعلموا أنّ رحلة العذاب مع الحافلة تبدأ منذ الصباح الباكر، مع أوّل استعمال لهذه الوسيلة الكريمة، فأنت ما إن تطأ قدمُك أرض الحافلة حتّى تستقبلك روائح تتمنى بعدها لو أنك تتلمّس جهازك التنفّسيّ لتطمئنّ على سلامته، ولقد صِرتُ بحمد الله وبفضله خبيرًا بما يملأ به الركاب مَعِداتهم كلّ يوم؛ أصبحتُ أميّز بين آكل البيض على الريق، وطاحن الثوم قبل النوم، ومُتمّم عشاء البارحة، وأصحاب البطون الخاوية أمثالي..


لَكُم أن تتخيّلوا حجم المعاناة مع كلّ هذه الروائح الطيّبة حين تختلط مع بعضها البعض، لتتشبّعَ بها الرئتان الى ما شاء الله من الوقت، وأنا متأكد بأنّه لو قامت جهة ما بإجراء دراسات مخبريّة ومجهريّة  على هذه الروائح لأَثبـتَـتْ بأنّ خطرها أشدّ فتكًا من خطر التدخين، بل ومن القنبلة الهيذروجينية حتى، وأنّها ترتقي حتما إلى منزلة الغازات المميتة الممنوعة دوليّا زمن الحروب، ولكن من سيهتم، فالمنسيّون أمثالي ليس مهمّا بماذا أو لماذا يموتون.. ولكن المهم في واقع الأمر أن يموتوا، ويريحون العالم من أعبائهم ومطالبهم الّتي لا تنتهي..


هذا المسلسل المكسيكيّ الركيك مع أزمة الروائح، يُعتبَر هيّنا أمام بعض المواقف الّتي يجد الواحد منّا نفسه واقعا فيها، بدون سابق إنذار أو حتّى إشارة بسيطة. 


 مواقف تتمنّى بعدها لو أنّ أباك طلّق أمّك قبل إنجابك، حتّى لا تعيش تلك اللّحظات، وما أكثرها، وما أصعبها، وما أشدّ وطأتها..!


أذكُر ما حصل لي ذات يوم صيفيّ قائظ، فقد كنت راكبًا الحافلة كعادتي، واقفًا بجانب الشبّاك أتنسّم بعض الهواء المنعش، وكانت هناك من بين الرّاّكبين سيّدة بدينة، جالسة قبالتي على كرسيّ أكاد أنْ أسمع أنينه من ثِـقـل ما يحمُل، وبما أنّ السيّدة كانت نائمة أو – هكذا بدا لي- فقد كنت أختلس إليها النّظر، مرّةً متعجّبا من بدانتها المفرطة؛ ومرّةً تلبية لدعوة الشّيطان لعنة الله عليه، وبصراحة كان لهذه السيّدة صدر، حَسِبتُه في لحظة ما بأنّه مطار دوليّ، أو قاعدة أمريكيّة أُستُحدِثَتْ في البلاد مؤخرا، من فرط رحابته ومساحته – اللهمّ لا حسد وبارك الله في أموال المُنفقين عليه وعليها – قلتُ لنفسي ما الضير لو أنّني استرقتُ النّظر إليه من حين لآخر، دون أن أنسى بأن أستغفر الله بين الحين والآخر. 


 بينما كنت مستغرقا في نظرات الكرّ والفرِّ تلك، دفعني أحد الركّاب وبشدّة من دون قصد لينزل من الحافلة قبل أن تغلق أبوابها، والمشكلةبدأتْ بالارتاد الذي حصل معي، أفلَتُ التذكرة من يدي، وقبل أن أتمكّن من مسكها سقطتْ الملعونة- ويا ويلي من سقطتها تلك- أتعلمون لماذا..؟ 

لأنّ تذكرتي المصونة سقطت على صدر تلك المرأة البدينة، وبلمحِ البصر اختفتْ التذكرة في ثنايا سطح المطار إلى أنفاقه، وكأنّ آلة شفط سحبتها في رمشة عين. 


 أحسستُ ببعض الاِنقباض وأنا لا أدري ما عليّ القيام به، وقبل أن أتوصّل إلى حلٍّ، صعد الحافلة مراقبُ التذاكر، الّذي ينزل نزول القضاء من حين للآخر وبصورة مفاجئة للتـثـبّت من اِقتطاع كلّ راكبٍ لتذكرته، عندها أحسست بجفاف في حلقي، وتمنّيت لو أنّ الحافلة تنشق وتقذفني بعيدا عن موقف محرجٍ كهذا، وبالفعل اِقترب منّا حضرة السيّد المراقب وطلب منّا اظهار التذاكر، فبدأتُ أفتّش جيوبي وأنا لا أعرف ماذا سأقول له، والمفاجأة كانت مع السيّدة البدينة الّتي – وبكلّ ثقة في النّفس- أدلتْ بدلوها عفوا بيدها في مطارها الدوليّ لتُخرج منه التذكرة.  

هل كانت تذكرتي..  أم تذكرتها.. هل أطلب منها أن تبحث أكثر لتُخرج التذكرة الثانية..؟! أم تُراها لم تقتطع تذكرة أصلًا وأنّها كانت على عِلمٍ بتذكرتي الّتي حطّت على مطارها المنحوس؟!


. أسئلة كثيرة تدافعتْ إلى رأسي في تلك الثواني القليلة قبل أن يصفعني صوت المراقب وهو يستحثني قائلا:  هيّا يا سيّدي أخرج تذكرتك..!

 تذكرتي..؟ قلتها بكلّ بلاهة وقلبي يكاد أن يقفز من مكانه من شدّة الحيرة والخوف..!


قلتُ متلعثمًا:

- الحقيقة يا سيّدي، تذكرتي سقطت منّي ..!

 فضحك المراقب ضحكة مجلجلة قائلا: هذه قديمة أليس عندك عذر آخر..؟

 فقلت له:  أقسم لك يا سيّدي إنّني إقتطعتُ تذكرتي ولكنّها سقطت..!

فقال وهو يسحبني من يدي كلصّ ضُبط متلبّسا: 

- هذه قلها هناك..! 

- أين لا تقل لي في مخفر الشرطة؟!

 فقال مستهزئا: 

- لماذا هل خرجت منه البارحة..؟ 

- لا والله يا سيّدي، إنّني رجل شريف..! فقاطعني وهو لا يزال يسحبني سحب الشاة إلى باب الحافلة قائلا: 

- كلكم تغنّون الأغنية داتها.. قسما بالله لو كنت حاكمًا، لقطعتُ دابركم من على سطح الأرض..!

 عندها إقتربتُ منه وهمستُ في أذنه:  

- أقسم بمعتقدي، لقد سقطت التذكرة على صدر تلك المرأة، ثمّ اختفت بين طيّاته..!


 فصاح المراقب صيحة خِلتُ معها أنّ الصّدر الّذي كنت أتحدث عنه قد ورّثه له أبوه قبل مماته، ثمّ تابع مُزبِدًا:

- خسئتَ ألَمْ تجد عذرا أقبح من هذا لتقوله، قسمًا لأُسلّطَنَّ عليك أشدّ ما يمنحني إيّاه القانون من حقّ في عقابك..!

وبالفعل لم يدّخر حضرة المراقب جهدًا في معاقبتي، فقد حرّر بحقي مخالفة ذهبت بخمس راتبي، وأمضاني على التزام يحملني للسّجن مباشرة لو تمّ إلقاء القبض عليّ مرّة أخرى دون اِقتطاع تذكرة، 

خرجتُ من الحافلة، أجرُّ أذيال الهزيمة ، وإذ بالمطار الدولي يمرُّ من أمامي، وعيوني تراقبه علّي أجد تذكرتي وقد حلّقت من أحد مدرّجاته.. 

سُحقا للمطارات الدولية.. و للأسلحة النوويّة.. ولمناطق حظر الطيران البشرية.. وتبّا لتلك الحافلات الّتي جعلت من المصائب والويلات أكلتي اليوميّة..


تعليقات

المشاركات الشائعة