شبح في دار النشر: بقلم رعد الإمارة

 شبح في دار النشر (الجزء الثاني) 


طوق الناشر كتفي بذراعه القوية، جذبني نحوه وقال :

_هل صدّقتَ كلامي؟ كنا نقف في نهاية الممر، أشعة الشمس القوية جعلتني بالكاد ارفع بصري اليه، قلت وأنا اتنهد :

_طبعاً أصدقك، لكن ما أخبرتني به عجيب، أحتاج الانفراد بنفسي. قلت هذا وحاولت أن اشاركه الأبتسام، لكن بسمتي سرعان ما احتضرت في فمي. لم يكن الزحام شديداً في شارع المتنبي، بضعة أشخاص متناثرين هنا وهناك، اغلب الموجودين كانوا من أصحاب المكتبات والبسطات، الذين تركوا أماكنهم في الداخل واخذوا يتفرجون، لم أكن أشعر بالجوع وإلا ماتركت رائحة كبة السراي الشهيرة تمر من خلال أنفي مرور الكرام، في الماضي كان لعابي يسيل بسرعة، لكن بعد تقدمي في العمر فالشهية تكاد تكون منعدمة ، حسناً، نحن ندفع ثمن سنين العمر.. اغمضت عيني حين وطأت قدمي جسر الشهداء، أخيراً ملاذي الحبيب، اوه، حتى نهر دجلة لم يعد كالعهد به، تقدم العمر به هو الآخر، ربما لو استمر حال النهر، فبضعة سنين أخرى كفيلة لأن يصيبه الجفاف! ما أن وضعت يدي على افريز الجسر حتى سرت برودة لذيذة في جسدي، تطلعت للأسفل، اهذه هي مياه دجلة التي تغنى بها الشعراء! كادت الرائحة الثقيلة تزكم أنفي، لاح خيال طيور النورس، مالبث أن اشتد زعيقها بالقرب مني، لوحت بيدي الفارغة:

_آسف، لاطعام لدي هذه المرة، انستني ذات العيون الملونة كل شيء. اشتدت قبضتي على الأفريز، اغمضت عيني، ثمة من يهمس في أذني:

_صرت تتحدث إلى نفسك إذاً!. تبلدت حواسي، سرت برودة عجيبة في قفاي، أنا لا احلم فالصوت حقيقي، تلفت يمنة ويسرة، يا إلهي من أين يأتي الصوت:

_أنا هنا، لكنك لن تراني، أخشى عليك فأنت مريض بالقلب. كدت أبكي، صوتها حقيقي جداً، حتى أن حرارة أنفاسها لفحت أذني، قلت بتضرع وأنا أختضُّ :

_هذا ليس عادلاً، صديقي الناشر شاهدك، أعدك بأن لن يحدث شيء، فقط دعيني أرى بريق عينيك، لطالما كتبت عنه، أنتِ تعرفين اكثر مني!. 

_طيب طيب، أنتَ تكاد تبكي مثل الأطفال الكبار، اغمض عينيك، هيا. أخذتُ الهث، باتت هيئتها واضحة أمامي، العينان والبريق الذي وصفته في القصة، شعرها الناري وفمها الشبيه بحبة الكرز، قالت وهي تطوح برأسها للخلف:

_تمالك نفسك، أنا جائعة. يا إلهي، وكأن صاعقة ضربت قلبي، هاهي تعيد ذات العبارة التي اعشقها، هي جائعة، تباً، قلت :

_تعالي، قلبي لن يتحمل أن أراك جائعة. مدّتْ يدها، بل أصابعها النحيفة ذات الطول الحلو، همست :

_لن نعود لذات المطعم الذي جرت فيه أحداث القصة-هزّتْ كتفيها - أنا اتشائم منه، دعنا نقصد مكاناً أكثر هدوءاً منه، اتعرف؟ لا أريد أن أموت مرة أخرى. قالت هذا وقد لاح شيءٌ من الغضب في ملامح وجهها الطفولي، سرنا معاً، كانت ترميني بنظرات جانبية مابين حين وآخر، كنت مسحوراً، اما في داخلي فلم أكن اردّد سوى، يا إلهي يا إلهي. وجدنا مكاناً صغيراً، لكني لم أترك يدها ، كنت أهمس لنفسي، هل مايحدث حقيقي؟ النادل حين جلسنا أحضر لها طبقا كبيراً، أربعة أسياخ من الكباب بالسمّاق، كما طلبتْ تماما، آه ياربي، هي اذن حقيقية، هذه المرأة عادت من الموت، طيب ياجنوني اللذيذ، هل ستعود كل شخصيات القصص التي كتبتها للحياة، فكرت هكذا ثم أطلقت ضحكة خرقاء وتحسرت. قالت وهي تدسُّ أول لقمة في فمها العنابي الصغير :

_لا تحدق بفمي، لن استطيع تناول الطعام هكذا، عليك فقط أن تشيح بوجهك، كما كنت تفعل كل مرة، هكذا كتبت عني في قصتك، أنا اذكر التفاصيل جيداً. تواصلتْ دقاّت قلبي المتسارعة، ستصيبني هذه البنت بالجنون حتماً. (يتبع للجزء ما قبل الأخير )


بقلم /رعد الإمارة /العراق/بغداد


تعليقات

المشاركات الشائعة