يوميات طبيب في الريف (4) بقلم رعد محمد المخلف

 قصة قصيرة


يوميات طبيب في الريف ( 4 )


دخل الممرض مرتبكًا إلى غرفة الطبيب وقال:

هناك رهطٌ من الرِّجال في الباب ،ومعهم رجل عجوز يقولون أنّه بحالة حرجة . أمر الطبيب الممرّض بإدخال المريض إليه ، وما أن خرج الأخير حتى دخل الرهطُ إلى غرفة الطبيب حيث تزاحم البعض على الباب ، بل حشر البعضُ البعضََ الآخر ، حيث كان العجوز محمولًا على الأذرع كمن يجلس على مقعد وثير .


وصل العجوز أخيرًا إلى الكرسي المقابل لطاولة الطبيب، والرهطُ واقف بتمامه وكماله في الغرفة.


 طلب الطبيب من الجميع الخروج من الغرفة ليتسنّى له فحص المومياء -عفوًا المريض- لكنّه واجه عاصفة من الاعتراضات المؤلفة من كمّ كبيرٍ من الجُمَل والكلمات التي اختلط بعضُها ببعض، تطاير اللّعاب معها من الأفواه، استطاع الطبيب التقاط بعضًا منها لتتكوّن لديه جملة مفيدة واحدة:

- لن أخرج حتى أطمئن على أبي.. عمي .. خالي.. زوج عمتي .. زوج خالتي .. جاري...!


صرخ الطبيب : صه .. صه  . أنتم تقفون في عيادة طبيب، ولستم في سوق << الهال >>* أو ساحة بيع الغنم .. 

التفت إلى العجوز الذي بدا متعبًا ويكادُ ألّا يتنفّس، ووجّهَ إليه سؤالًا مباشرًا بعد أن استسلم للرهطِ الرّافض للخروج:

- كم تبلغ من العمر يا عم؟

أجاب العجوز بصوت مرتجف وكأنه يستخدم حنجرة ماعز بدلًا من حنجرته:

- كنتُ في سن العاشرة حين تمّ غزونا من قِبَل قبيلة أجنبية قالوا أنهم من وراء البحار البعيدة .\ يقصد المستعمر الفرنسي\،

وأخذ يسعل بشدة وبصوت اختلطت فيه الحشرجة مع الصفير وخوار البقر وزقزقة العصافير، وعندما هدأت عاصفة السعال قال: إلى أين وصلتُ ...؟

- وصلتَ إلى...! لا يهم يا عمّاه ..! قل لي متى كانت المرّة الأخيرة التي زرتَ فيها طبيبًا؟!

- آخر مرّة كانت ... في سَنة المَحْلِ .. حين أجدبت الأرض وجفّت دموع السماء .

- ومتى كانت سنة المَحْلِ هذه ..؟!


ردّ أحدهم: كانت في العام الذي تزوّج فيه جاري للمرّة الثانية ..

قاطعه آخر مكذبًا:

- بل في السَنة التي وَلَدَتْ فيها بقرتي توأمًا.. لقد كانت أعجوبة حقيقية .. و....

وأردف آخر مفندًا ادعاء سابِقَيه :

- بل في السنة التي جاء فيها شقيقي من الجيش بإجازة ليومين بعد غياب دام لأكثر من عام ونصف .. و حينها سمعتُ أنه ذهب إلى الطبـيـ.... 


قاطعه أحدهم وقال : ويحَكم ماذا تظنّون أنكم فاعلون بنقاشكم هذا ... أنتم تضيعون وقت الطبيب سُدًا – ابتسم الطبيب علامة الرضى وحمد الله لأنه وجد في الرهطِ من يفهم ويقدّر عاقبة الأمور- أيّها الطبيب أنا أعلم جيدًا متى كانت الزّيارة الأخيرة للطبيب : لقد كانت .... كانت ... في السنة التي وقع جدار سور منزلنا على والدي فقتله ..!

وهنا صرخ الطبيب بصوت كأنه الهزيم :

- اصمتوااااااااااااااا جميعااااااا .. – مسحَ عرقَه بمنديل – لا أريد أن أعرف عُمُرَه ولا زيارته الأخيرة للطبيب ... أريد استكمال القِصّة المَرَضيّة أرجوكم .....


وهنا نظر العجوز إلى الطبيب وقال :

- لقد كنتُ عند الطبيب منذ فترة طويلة جدًا، لا أذكر بالضبط متى ، بَيْدَ أنني أذكر هروبي من غرفة العمليات آنذاك ....!


- ولِمَ هربتَ من غرفة العمليات… ؟!


- لأنني سمعتُ الممرّض يقول : لا تخف .. لا تكن جبانًا.. كُنْ هادئا وحسب .. و...


هنا تدخّل الطبيب مُستوضِحًا عن سبب هروبه وللمرة الثانية :

- ولمَِ هربتَ من غرفة العمليات ، فلم يقُل الممرّض ما يجعلك تخاف وتفرّ من هناك ؟!

- المصيبة أنه لم يكُن يوجّهُ كلماته لي ...!

- لمن إذًا؟!

- كان يقولها للطبيب المُمسك بالمِشرَط ..!


ضحك الطبيب حتى فرّتِ الدموع من عينيه، وبعد أن استجمع قواه قال للعجوز :

- مِمّا تشتكي، ما الذي يؤلمك ..؟

- بل قُلْ ما الذي لا يؤلمني..؟ كلّ شيء يؤلمني .. أحس بجَبَل يقف فوق صدري، وكِليَتاي فيهما وخزٌ كَوَخز الإبر، وقلبي ينبض ببطء تارةً، وتارة يكاد أن يقفز من صدري، وأمّا رِئتاي فأشعر وكأنهما قد ذَبِلَتا حتى انكمشتا كما ينكَمِش العِنبُ ليصبحَ زبيبًا، وأشعر بضعف في أقدامي حتى لا أقوى على الوقوف، وأتبوَّل في فراشي ولا أشعر بتغوّطي، وعيناي تؤلماني من شدّة الرَّمد، وأمّا عن السُكَريّ؛ فعنيدٌ لا يقبل الهزيمة ولا المُهادَنة… و…  


قاطعه الطبيب ممازحًا : 

- سأكتب لك دواء اسمه\ يُحيي العِظام وهي رميم \… !


                             *****   


- *الرَّهْطُ عدد يجمع من ثلاثة إِلى عشرة، والبعض يقول من سبعة إِلى عشرة، وما دون السبعة إِلى الثلاثة نَفَرٌ، وقيل: الرَّهْطُ ما دون العشرة من الرّجال لا يكون فيهم امرأَة.

* سوق الهال:  في مناطقنا يسمى سوق الخضار للبيع بالجُملة.


تعليقات

المشاركات الشائعة