يوميات طبيب في الريف2/3: بقلم رعد محمد المخلف

 قصة قصيرة 


يوميات طبيب في الريف ج3/2


دخل الطبيبُ إلى عيادته مسرعًا ، فألقى التحيّة على المرضى المنتظرين في الصّالة، ولمح بزاوية عينه عجوزًا تعود إلى حقبة العصر الحجريّ، قال في نفسه :

- هذه التي ستقضي عليّ اليوم…! 


دخل الممرض إلى غرفة الطبيب ممسكًا بيده لائحة أسماء المرضى وقال : 

- هل أبدأ بإدخال المرضى حسب الدور أيها الطبيب..؟

أومأ الطبيب علامة الموافقة . دخل رجل مع العجوز التي رآها الطبيب أوّل مرّة لحظة ولوجه لمكتبه، حيث رمقته العجوزُ بنظرة عدائيّة، كما ينظر الغريمُ إلى غريمه، وكالعادة وجّه الطبيب سؤاله المعتاد للعجوز :

- مما تشتكين أيتها الجدّة..؟

- انا جدّة ؟ .... لعلّي أصغر سِنًا من أمِّك ؟!... أمّا عن شكواي فأنا  أشتكي من كل شيء .... كل ما قد يخطر لك ببال ...!

سأل الطبيب عن عمرها فردَّ حفيدُها :

- ما هذا السؤال أيّها الطبيب..؟ هل تودّ طلب يدها للزواج ؟

ابتسم الطبيب على مضض وقال:

- العفو ... فأنا لستُ من مقامكم ،وأنتم أعلى مقامًا وقدرًا ، لكنّني وددّتُ أن أعرف عمرها من أجل التشخيص المبدأيّ لا أكثر..! 

 

توجّه بنظره إلى العجوز التي كانت لاتزال ترمقه بتلك النظرات العدائية، وطلب منها أن تستلقي على سرير المعاينة لفحصها، فما كان منها إلّا أن صرخت بصوت مرتجف :

-معاذ الله أن أستلقي على سرير أمام رجل غريب ....!

حاول الطبيب مرارًا أن يُفهِمَها أنّه لابد لها أن تستلقي على السرير كي يتمكّن من سماع صوت الهواء في رئتيها و دقّات قلبها، دون جدوى - على رغم  مساندة حفيدها له- وكاد الطبيب أن يجثو على ركبتيه كما يفعل العاشق الولهان لكي تقبل الاستلقاء على سرير المعاينة، وقد اقتنعت أخيرًا.


قال الطبيب : هل لكِ أن ترفعي ثوبك لأتمكّن من وضع السماعة على صدرك أيّتها الجدّة؟

صرخت بصوتها المتقطع الخشن وهي تسعل :

- معااااااااذ الله أن ينظر رجل غريب إلى جسدي ...معااا........ذ الله .....!

كان ثوبها الريفي لا يملك أزرارًا من الأعلى ، فلو كانت موجودة لسَهُل الأمر على الطبيب أن يدسّ سماعته من هناك وانتهى الأمر .


 بعد أخذٍ وردٍّ وشرحٍ مطوّل أنْ لابد من هذا الإجراء، حتى رضخت العجوز، لكن بعد أن جلب  لها الطبيب غطاء يستر جسدها النحيل المتجعّد، وكاد الطبيب أن يغمى عليه حينما شاهد بطن العجوز الشبيه بأرض تمّ قصفها بمدفعية ثقيلة، فقد كانت البقع السوداء تحتلُّ كامل البطن، انتشرت بشكل عشوائي وفيها تقرحات والتهابات شديدة، الشيء الذي فَسّرَ للطبيب سببَ الحرارة المرتفعة ووجع المفاصل التي كانت تعاني منهما العجوز . ابتسم الطبيب مُخفيًا وراء ابتسامته هولَ ما اكتشف للتوّ وقال :

- أقسم بالله أن بطني أجمل من بطنِك الذي أخفيتيه عنّي أيّتها الجدّة...!


ضحكتْ العجوز لأوّل مرّة وهي تسعل وقالت له مُفسَّرةً سبب تلك القروح بأنّها ناتجة جرّاء العلاج الذي أجراه لها / العطّار/ الذي يسمّونه في أريافنا بعلاج

/ العُطبة /.**


فَهِمَ الطبيب وأتمّ فحصه ووصف لها الدواء اللّازم على أن تعود العجوز لزيارته بعد أسبوع . 

لم يستطع الطبيب النوم في تلك الليلة حسرة على ما رآه اليوم، وعلى ما يعانيه مجتمعنا من تخلف. 


** العُطبة:  تُأخَذُ من روث الأغنام (البعر)، قطعة مدوّرة، تُغَطَّسُ في زيت ثم تُشعَل وتوضَعُ على البطن أو الظهر، ثم يقوم بإطفائها، ظنّا أن الكي بنارها سيجمع الألم حوله ويُشفى المريض من آلامه المفصلية أو السعال… إلخ


رعد محمد المخلف.  سوريا


تعليقات

المشاركات الشائعة