في عهدة التنور: بقلم رافع الفرطوسي

 ☆ قصة قصيرة ☆


في عهدة التَنور


هي لا تنام الا ساعات قليلة من الليل بعد انتصافه , فمنذ رحيل زوجها بحادثٍ في العمل قبل عامين تاركاً معها طفلين ، بدأت تواجه صعوبة الحياة وضنك العيش بمفردها , تواجه كل تحدٍ لوحدها بصلابة المحاربين الاشداء وصبر السجناء. 


افتتحت مشروعها المنزلي الصغير حيث أخذت تبيع الخبز لأهل الحي كي تحفظ كرامتها وتعيل طفليها وتتجنب انياب الوحوش الذين يتربصون بامرأةٍ وحيدة مستغلين العوز الذي تعيشه ولكن هيهات. 


في ساعة تسبق خلودها منهكة الى الفراش , تراودها افكار ساخرة وأسئلة عجيبة ,فتقول في سرها لو أنها توقفت عن صنع الخبز وبيعه فان معظم الكسولات المدللات اللواتي يشترين الخبز منها سيصبحن مطلقات ! 


فالرجال يفضلون خبز البيت على خبز السوق , ربما لأن ما يُصنع في السوق انما يصنعه رجال مثلهم, أو ان رغيف البيت جودته عالية وطعمه اطيب , ومهما كان السبب فأن رجال الحي يحبون الخبز الذي تصنعه ويفضلون وجوده على المائدة حاراً لينسيهم نهار عمل شاق ! 


ثم ان فكرة تصاحبها حتى اثناء وقوفها على التنور, فلقد كانت معشوقة رجل واحد , تصنع الخبز لرجل واحد , وبعد رحيله أضحت معشوقة معظم رجال الحي , وكلهم يأكلون من خبزها, كل واحد منهم يذكر اسمها مرة في اليوم على الأقل, حين يوصي من في البيت ان يسارع في شراء الخبز منها قبل نفاده. 


تنتبه من افكارها لتراجع اسئلة ابنها الأكبر , وكم هي محيرة اسئلة الأطفال , فلقد عاد من مدرسته يوما ليقول لها أن درسهم اليوم كان عن الجنة التي في السماء , وحدثها عن الانهار التي تجري فيها , وبساتين الفواكه الكثيرة.. يخبرها وكأنه يحتاج منها لتأكيدٍ على كلام معلمه , فتؤكد له القصة ليصدمها بسؤال : أو ليس ابي في الجنة كما أخبرتني؟ 


- نعم يا ولدي الغالي , هو هناك .

- مر البائع المتجول من امام باب المدرسة وهو يبيع التين والرمان , فتفتحت شهيتي حيث لم آكلهما منذ فترة , إن كان ابي يعيش في النعيم ولا يرغب بأن يلحقننا به ولا يريد العودة بيننا , فليرسل الينا التين والرمان على الأقل ! 


لم تجد رداً يقنعه أو يسد شهيته سوى أن تجيب : عندما يمر البائع من امام الدار سأشتري لك التين والرمان يا حبيبي. 


انقضى نهار شاق بين اعمال البيت والوقوف في حضرة تنورها المقدس , نام الولدان تاركين حبيبات الرمان على ارض الغرفة تتلألأ كنجمات نزلن كي يحرسن براءتهم . 


حاولت ان تبتعد عن ساحة افكارها الغريبة التي تداهمها في ساعات الصمت , شغلت التلفاز وبدأت تغير القنوات بسرعة : كلها تفاهات , قالت في نفسها , اصحاب الخدود المنتفخة يظهرون ببدلاتهم الانيقة وكروشهم المتخمة يتحدثون عن العدالة الاجتماعية وانصاف الفقراء , لصوص يطالبون بمنع سرقة قوت الشعب , مجرمون اصحبوا اصحاب فخامة وسيادة , جهلة وفاشلون يقودون المجتمع , وسوى ذلك فقنوات للأفلام , وأغانٍ هابطة . 


قبل ان تحاول إطفاء الجهاز , انقطع التيار الكهربائي فشغلت مصباح هاتفها المحمول وامسكت بقطعة من ورقٍ مقوى لتؤدي دور المروحة على وجهي طفليها . 


كان النعاس يباغتها وقطرات العرق تسيل من جبهتها وتحت اذنيها , لكن مهفتها لم تتوقف عن الحركة حتى عاد التيار الكهربائي من جديد , بدأت نسمات الهواء البارد تداعب وجهيهما فشعرت بسكينة وغادرتهما , نظرت الى ساعة الجدار فكان الفجر يقترب وهو الوقت الذي تبدأ فيه بعمل العجين فعرفت ان لا نصيب لها من النوم هذا اليوم ! 


بحزن شفيف مصحوب بابتسامة ساحرة , القت نظرة على الملاكين الغاطين بأحلامهما , واستدارت الى كيس الطحين المطروح تحت السلًم و شكله يذكرها بأصحاب الكروش الذين يظهرون على التلفاز وهم يطالبون بتحقيق عدالة اجتماعية لأمثالها , وضعت كمية من الطحين في معجنتها , بدأت تدوف عجينها وهي تنظر الى تنورها محدثة اياه : لولاك لطُلقت نصف نساء الحي , لولاك لما أكل ولداي التين والرمان . 


رافع الفرطوسي

البصرة 2022


تعليقات

المشاركات الشائعة