اللقاء الأخير: بقلم محمد بن الحاج

 قصصة قصيرة 


بقلم: محمد بن الحاج 


اللقاء الأخير


كادت مشاعر الشوق بينهما أن " تٓتٓرٓقْمٓنٓ " ! لقد فرض عليهما هذا المحارب الخفي


 البِعاد و كاد الحجر أن يطفئ اللهيب الذي يغتمل في صدريهما.


...و انتهى الحجر...و فُتٌِحت الأبواب غير أن منع الجولان ليلا ظلٌ ساريا. 


...طلب منها في لهفة الخروج للقائه. فضربت له موعدا عند الغروب...ترجٌٓاها أن


 تقدٌمه  ساعة. و لكنها رفضت! 


... تأنٌق و تعطٌر و غادر البيت متٌجها نحو المحطة. كان وقت الأصيل يذُرٌُ آخر غبار


 أصفر على سطوح المنازل منبئا بزحف الغروب و مُعلنا عن نهاية نهار خريفي من


 أواخر شهر أكتوبر..


...استقلٌ سيارة" تاكسي" في اتجاه المدينة المجاورة. كانت اشواقه تسبقه إليها. و كم


 تمنى لو كانت الحياة تسير على طبيعتها فيلقاها حيث ألتقينا أول مرة، هناك في


 السوق الاسبوعية، بين طاولات بيع ملابس الفِرنجة المستعملة . استيقظت ذاكرته،


 فتراءت له كغجرية متمردة بشعرها البني الأجعد الثائر، بعينيها الدعجاوتين


 العسليتين، بابتسامتها الآسرة...فارتسمت على وجهه علامات الانتشاء...ترك رأسه


 تتراخى على ظهر المقعد تاركا العنان لأحلامه الوردية. غير أن سائق سيارة الاجرة


 قطع عليه حبل احلامه: " لقد وصلنا أيها الشاب "


لفظته السيارة من جوفها، و راح يحُثٌ الخطى نحو محطة القطار- المكان الذي حددته


 للقائهما- شعر و كأنه يطير لا يسير. إنه ينتظر اللحظة الحاسمة-لحظة اللقاء. 


 سيحتضنها بعمق.  سيطفئ لهيب الشوق برُضابِها.  سيهمس في اذنها... أحبك...


 أحبك... أحبك...سوف يبحر في عسل عينيها. سيبُثٌها كل أشواقه و الامه. سيؤكد لها


 أنها حبه الأبدي و قدره المحتوم...


بلغ المحطة، جال ببصره في الأرجاء. كان المكان مقفرا تضفي عليه أعمدة الأضواء


 الخافتة مسحة من السكون. انتخى ركنا قصيٌا يمكنه من رؤية أوسع. شعر بقشعريرة


 تغزو جسده. لقد بدأت نسمات المساء تفرض وجودها على الكائنات. تزحزح من


 مكانه يخطو الهوينا و يفرك كفيه...أدخلهما في جيب سرواله. سار في شرود و قد


 خامرته أفكار سيئة. هل تراها أخلفت وعدها؟ ! انها لم تفعلها من قبل! تزاحمت


 التساؤلات في ذهنه ....الوقت يمر بسرعة و ساعة منع الجولان تقترب شيئا


 فشيئا...هل يعود دون أن يلقاها؟! لقد انتظر هذا الموعد بفارغ الصبر. أقرٌ العزم بألا


 يتزحزح عن مكانه و لو بات الليلة على رصيف المحطة...في تلك الأثناء، تناهى الي


 سمعه صوت وقع خطوات، التفت خلفه...دقٌق النظر...إفترٌ ثغره عن ابتسامة...انزاحت


 عن ذهنه كل تلك التهيٌؤات...انتفض قلبه بين أضلعه..إنها حبيبته....سار نحوها فاتحا


 ذراعيه...تسمٌرت في مكانها...أشارت له بكفها...قف...تعطلت خطواته...أشارت له: "أين


 الكمامة؟!" زمٌٓ شفتيه و هز كتفيه في لامبالاة ثم قال مرحبا "أهلا...لقد اشتقت اليك"


 خطا مقتربا منها فتقهقرت إلى الخلف مرتبكة. سألها في حيرة من أمره: "ما بك؟"


 قالت: "لا شيء!" اقترب أكثر علٌها تشتمٌ رائحة عطره و تقول له ككل مرة : "إن


 عطرك يسحرني" فزادت ابتعادا! لم تنطق بكلمة...بل سمعها وهي تسعل سعالا جافا


 موجعا. انتابه الذعر...سألها: "ألم تشتمٌي رائحة عطري ؟" فحركت رأسها مشيرة


 بالنفي. سألها في لهفة : "هل أنت...؟" حركت رأسها مشيرة بالإيجاب.قال في


 حسرة:"أحقا ما تقولين؟!" أمسك رأسه بين راحتيه...و سالت على خديه دموع


 دافئة...أحس و كأن النار تضطرم في صدره. تراءت له صورة طالما حلم بها، صورتها


 و هي بجانبه في فستانها الأبيض تزفٌ إليه في ليلة من أروع ليالي العمر...فكيف له


 أن يراها و هي في الكفن؟...جثا على ركبتيه و أطلق من صدره صرخة مدوية مزقت


 حُجب الصمت هرعت نحوه. أرادت أن تحضنه. و لكنها تراجعت..قالت : "عليٌٓ أن


 أعود" ...لقد تأخرت..." 


استوى واقفا...هبٌ نحوها...نزع عن وجهها الكمامة...احتضنها بعمق و غرق ينهل من


 رُضابها...


...و أشرقت شمس يوم جديد...اختلطت معها ضوضاء المسافرين بنعيق سيارة


 الاسعاف. و تداولت الصفحات"الإلكترونية" صور حبيبين متعانقين على رصيف


 محطة القطار قد جمٌد الصٌقيع جسديهما...


محمد بن الحاج.

تونس


تعليقات

المشاركات الشائعة