نهر.. فنخل .. فياسمين: بقلم رافع الفرطوسي

 قصة قصيرة


نهرُ.. فنخلُ .. فياسمين 

 

 

يظنون أنهم يعرفونني , حين يحاورني أحدهم أو تبتسم لي أحداهن , حين يتذمر مني هذا ويمدحني ذاك , ارى في وجوههم قناعة تامة بما يفعلون وثقة بما يقولون فأردد في سري : يا للمساكين !

كيف يظن أولئك بأنهم يعرفونني في الوقت الذي ما زلت ابحث فيه عني ؟ فأنا لستُ ما يتصورون , ولستُ ما يعرفون , أنا شخص الى الان لا اعرفني , طالما أجبرت على حيازة وثيقة استوطنت جيبي قسراً .

 

ولد أبي في قرية تشرب من سطح نهرٍ وتأكل من جوف آخر, وفي كوخٍ يطل على نقطة التقاء هذا و ذاك ولدت أمي , بعيدان , غريبان لحظة المولد , وبأمرٍ اقوى من دستور الدولة وأثبت من قانونها , اقتربا أكثر حتى صار ينسب أحدهما للآخر.

 

ليس هناك من الذكريات ما يتعدى الماء والطين , وما في حكاياتِ ليالي الشتاء حديث الا وكان النهر والنخل محتواه , لتأكيد رعشةَ تتنامى بين اضلاعي , أسعى لتكسيرها شهقات واحدة فواحدة , خجلاَ من ان يقال ان ابن الماء قد يهزه البرد في لحظةٍ ما , حتى يأتي الحديث على ذكر القصب لتتذرع اطرافي بتجسيدِ دوره , فأراني أهتز يميناَ وشمالاَ ثم التصق ببساط النسيج تحتي لأعود جزءا من حقيقته الليلة , خيط ينتمي الى الاشياء بصفةٍ مؤقتة .

 

هذان, من اعترفا بأنهما لا يعرفانني جيدا , وشجعاني على ان استمر بالبحث عني , داعيان ربهما ان أجدني قبل أن يواريا الثرى , لو بسويعاتٍ قليلة , ليس فينا شخص مقتنع بما يجري ,

فماذا لا نغير الحديث لليلة؟ ولا بأس ان نبدأ ايضا من النهر والقصب .

 

من نهرين بالماء والطين ونخلة وعود قصب , تشكلت أنا, انا الحقيقة الآنية , والنتيجة المقدرة ,

منحت أسماَ لم يستشرني أحد باختياره , وكذلك نسبت الى أرضٍ تناسى من نسبني اليها جغرافيا التكوين واعتمد على تلك التي حددها قانون الاسلاك الشائكة والجدران العازلة , وهذا ما أقرأه في بطاقتي الوطنية , احملها لحاجتي اليها , رغم اعتراضي على جلِ ما ورد فيها .

 

تتفحص اناملي الخارطة المرسومة على جدار الدار قبل مولدي , تسير سبابتي طوعاَ مع النهر الذي شرب منه ابي , اجده اقد أمتد كعاشقٍ برداءٍ ازرق بين حقول الياسمين , قبل ان يكمل رحلته صوب جنات النخيل عابراَ صحراء واسعة يبث فيها الحياة .

  وفي كل تلك المساحات أجد أشباه ابي , بصورته وصوته .. بل أجد من يحمل ملامح وجهي على كفه , يسلمها لأخرٍ يحمل ملامح وجه أبي , ويضعها أمانةَ في هودج الحسناء التي ما أن رفعت الخمار عن وجهها حتى وجدتها تريد ان تشبه أمي !

غيرت طريقة البحث شاكراَ أناملي , فقد حان دور قدمي بالمسير نحو حقيقة يرفضها زارعو الاسلاك الشائكة فوق صدور الياسمين واضلاع النخيل , متمردا على القانون الذي شرعوه دون موافقتي , وعملوا به رغما عني ليجتثوا كياني , وليصنعوا مني شخصا كما يريدون .

 

على الحد الفاصل بين بين نخلة وزهرة ياسمين , اشاهد النهر باسماَ يمر على الجميع غير آبه بالشكليات التي وضعوها , اسعدني المنظر حيث يمر من انتمي اليه دون عائق وسؤال , فلماذا يسألونني ؟ 

- جواز السفر والتأشيرة لو سمحت .

لا املك جوابا لسؤال لست مقتنعا به اصلا , ليس لدي رد لجملة لا اؤمن بها .

يكرر السؤال بلهجةٍ اشد وصوت أعلى .

- هل أنت منهم ؟

- ماذا تقصد ؟ ومن هم الذين أنا منهم

- أولئك الذين لا يعرفونني حين أقبل عليهم رغم أن النهر يمر قاطعاً ديار قومي , زراعا فيهم الحياة والثبات .

- أرني جواز سفرك وإلا منعتك من المرور .

- لم اسعَ للحصول على واحدٍ , أدرك بأنني لا احتاج اليه حين اتنقل بين أهلي وعلى أرض اجدادي , ألا ترى النهر ؟ أنا وانت اليه والى طينه ننتمي , فهل سنحتاج الى تأكيد هوية بعد هذا؟

- ارجع , وعد بما يثبت انتماءك , واذا كان علىَ ان اساعدك , فعليك ان تخبرني أولا :

- من أين أنت 

- اخبرتك انني انتمي للنهر الذي تنتمي اليه , بين النخيل والقصب كان مولد امي وابي , التفتا يوما فوجدا إرثا لهما على ضفاف نفس النهر يعبق بعبير الياسمين , وبما أنك لم تفهم لغتي فلا بأس بأن اخبرك بلغة راسمي الحدود لتعرفني , او على الاقل لتصدقني : أنا سوراقي ...

فهل يمكنني, كما النهر المرور ؟


رافع الفرطوسي

في مكانٍ ما من ارض الوطن الكبير

2022


تعليقات

المشاركات الشائعة