البئر:بقلم سمية الإسماعيل

 البئر 


ذات غفلة من حذر ، قادته خطاه إلى بلدته ، و عدٌ في آخر لحظات جمعت بينهما يعيد سيرة انقضت ليستلهم منها قوة البقاء ، .. المكان مقفر  ، و المنازل أطلال . و كأن غضباً نزل بها . بضع أصوات هنا و هناك . رجالٌ مدججون بالسلاح وجوههم غريبة لم يألفها . توجه بتلقائية إلى منزله لكنه تاه في منتصف الطريق ، محمود كان دليلاً سياحياً قبل أن تحل الغربان  ببلدته الوادعة و تحيلها  أثراً بعد عين ، و ها هو يقف عاجزاً أمام أكوام الدمار ." لقد فقدت المدينة معالمها " قالها  بغصة كادت تقتل آخر أنفاس الحياة فيه . وقف محمود حائراً برهة من الزمن لم يحسبها أهي دقائق أم ساعات . أخيراً قرر الإعتماد على حدسه و ترك لسيل الحنين أن يجرفه إلى مبتغاه . ها هو المشفى الحكومي الذي شهد آخر أنفاس زوجه عندما سقطت قذيفة غاشمة على منزلهم . " محمود ، لماذا تصر على البقاء هنا ، كل الناس تغادر بيوتها بحثاً عن الأمان في مكان آخر ، دعنا نترك المنزل و لو مؤقتاً ." ارتسمت على وجهه علامات حزن و إحساسٌ بالذنب عندما تذكر آخر أحاديثهما . إنها الذكرى السنوية لوفاتها مروى ، زوجه الحنون  . أصر على زيارة ضريحها بعد تحرير مدينتهم . سرطانات انتشرت في نسيج مدينته و استشرت لتدمر كل خلاياها . ما زالت عيناه تحتفظان بصور الذعر الذي سكن القلوب و ساقهم إلى حتفهم إما موتاً أو تهجيراً ، و هذا الأخير كان موتاً بطيئاً يشل مفاصل الرغبة في الحياة بعد كم الفقد . 

بدأت ملامح الطريق إلى بيته تتبدى شيئاً فشيئاً مع خطواته المتسارعة بتسارع دقات قلبه  كلما اقترب أكثر . "آه هاي هي سيارتي ، هيكل عظمي ، أقصد حديدي، نخر فيها الدود فما أبقى لها باقية . وقف بباب حديقته التي تركها عنوة عندما استطالت أكفهم مفرودة بمساحة الرغبة في الرفض " هات مفاتيح منزلك ، سيصبح مكان استراحتي" قال كبيرهم . خرج منها مدحوراً بسطوة القهر . " هلا سقيتم الزرع ، نخلتي الصغيرة بشرت بأول عرجون ، و أشجار الورد ، كانت تحبها زوجتي . " لم يتمالك نفسه فانهمرت دموعه الثكلى . ما كنت أعرف قبلاً ، أيبكي الرجال؟!! 

لم يكن وحده من دفع ثمن البقاء، أشجار حديقته العنيدة ، هي الأخرى فضلت الموت واقفة رغم كل جبروت أسلحة الدمار التي عاثت في البلدة فساداً . قفز من فوق حطام منزله إلى زاويةٍ في آخر الحديقة ، البئر الذي حفره لسقايتها .عادت به ذاكرته إلى ذاك اليوم ، عندما صادف أول خلاف بينه و بين زوجه التي تزوجها بعد قصة حب صاخبة . أمسك بيدها إلى حيث البئر " هنا سنلقي بكل أوزار  ضعفنا إن غلبنا جهلنا . هنا سنغرق أحزاننا .و هنا سنودع أيضاً أسرار حياتنا . لن نشاركها غير البئر " 

كانت عملية تسلله إلى منزلهم مخاطرة يعرف عقباها . لكنه لم يتبق له شيء يخاف عليه. كل المتناقضات أصبحت متشابهات ، وبعد كم الفقد ، الحياة و الموت سيان . لم يتسنى لمحمود و مروى  الإنجاب رغم كل المحاولات . استسلما لإرادة الله و تابعا حياتهما  التي لم يعكر صفوها  خلاف . حدق في البئر ملياً تبدى وجهها الملائكي بابتسامته الهادئة . صوتيهما و قد اختلطت "لقد نسي عيد ميلادي ، لأول مرة منذ تعارفنا ، لن أغفر له زلته "لكنها أبداً لم تعاتبه . " كم كنت رقيقة يا مروى " قالها بحسرة تختصر كل مرارة الفقد و الوجع القابع في زوايا روحه . غاصت عيناه في البئر ثانية تبحث عن كل القصص التي رسمت حياتيهما " غضبت مروى من أمي اليوم ، قابلتها بجفاء، ليس من عادتها و لكن أمي لا تفتأ تتحدث عن الإنجاب . تريد ولداً يحمل اسم العائلة ، خاصةً انني وحيدها بين ثلاث بنات " ههههه  ارتد للخلف ساخراً " ولداً يحمل اسم العائلة ، و هل تركوا لنا أسماء نحملها ؟؟" " ليتك تعلمين يا أمي أننا أصبحنا بلا تاريخ ، بلا ملامح . أصبحنا مسخاً ليس لهم إرثاً و لا أثراً يورثونه لأجيالهم القادمة . هل تعلمين يا أمي أننا تشرذمنا في كل بقاع الدنيا"  . عيناه اللتان امتلأت بالدموع عادت لتنبش قبر الذاكرة . أجل رغم كل الصمت الذي يغلف المكان حوله ، كان هناك ضجيجاً يثير الذاكرة بكل تفاصيلها الدقيقة ، هو لا يريد أن ينساها ، يريدها حاضرة . مضت ساعات و ساعات ، غادرت كل الحافلات حسب التوقيت المرخص له . وحده بقي ملتصقاً بالبئر تؤنسه كل مشاكلهما الصغيرة وكل الذكريات المتشبثة بحيطانه كبضاعة قابلة للإسترداد . خيم الليل على المكان و أحس محمود بالنعاس بعد رحلته الطويلة الوغلة في عمق الذكرى بحلوها و مرها . اتكأ بحسده المنهك على جدار البئر مفترشاً الأرض و غط في نوم عميق ، أيقظته الأصوات، فتح عينيه بنصف إغماضة" ها هو سيدي، الإرهابي الذي تسلل خلسة ، لا بد أنه هو من يقوم باصطياد جنودنا و يفجر مقارنا " قال أحد الجنود موجهاً بندقيته التي تزن ضعف وزنه. فتح عينيه دهشةً " إرهابي!!!!" .تقدم الضابط بعنجهية المنتصر " أخيراً وقعت . خذوه " . 


سمية الإسماعيل/سورية


تعليقات

المشاركات الشائعة