حكاية رجل صالح: بقلم عبدالكريم جماعي


 -حكاية رجل صالح-


ولد جدّي في اواخر القرن التاسع عشر..عاش عمرا مديدا..أنفقه في رعاية أرضه وشجيراته..وهب كل حياته لها..حراثة وتقليما وتهذيبا..أكل منها وأعال أهله..حتى أقعده الحال بعد أكثر من تسعين حولا..ولزم فراشه عدة سنوات الى أن وافاه الاجل للقاء ربه..كان رجلا شهما كريما شجاعا..نقيا..كنت محظوظا بملازمته في طفولتي وشبابي..علمني أشياء كثيرة عند مرافقتي له..وأعطاني من فيض قلبه..ما تعجز الكتب والمدارس عنه..!!

شارك في الحرب العالمية الثانية بعد تجنيده من قبل الألمان الذين سيطروا على الجنوب الشرقي في بداية الاشتباكات..حدثني عن سفره قسرا الى بلاد الجرمان وكيف هرب رفقة ثلة من أقرانه حتى عادوا الى الوطن..زار البقاع المقدسة قبل استقلال الدولة التونسية..كانت الرحلة شاقة فهي على القدمين ذهابا وايابا..لذلك بقيت صفة "الحاج" تلازمه دائما..كان متدينا بلا تزمت..او تعصب..عرف الله بقلبه..بلا معلم او فقيه..ينام باكرا ويغادر فراشه في السحر..شتاء وصيفا ..لا يتحدث كثيرا..أصابه بفعل الكبر بعض الصمم..فلا تسمع منه الا همهمات غامضة..هي عبارة عن تسبيح متواصل يجري ذكره على لسانه في ساعات صحوه دائما..!!

صحبته في كل أعماله..كان لا يتوقف عن نصحي وارشادي..يؤثرني عن بقية أحفاده بلا سبب واضح..علمني بعض المهارات الفلاحية..التي لم يتقن غيرها..على يديه عرفت اغلب التقنيات البسيطة..

ارتبطت حياته الطويلة بطين هذه الارض..رواها من عرقه وجهده..فأعطته خيرا وفيرا..كان أحيانا يطلب مني وانا بعد غر صغير في اماسي الصيف الطويلة أن أقوم بحك ظهره بيدي الضعيفة..كنت اشم رائحة التراب على جسده كانها المسك..يجلس امامي بجسده الضخم..أشرع  انا في مهمتي بفرح طفولي..وهو مشغول عني..بتسبيحه المتواصل..غير عابىء بأظافري تخدش لحمه..ثم يدعو لي بالنجاح والتوفيق..!!

لم أشاهده يوما يتذمر او يشتكي..كان راضيا بما خطه له القدر..مستسلما لتدابيره.. كأنه حاز ايمان الملائكة..!!


لم أشهد في حياتي شخصا كانت صفته مطابقة لإسمه تماما كما كان الحال مع جدي.."مبارك"..فقد أتاه الله بركة في عمره..الذي ناهز القرن..لم يزر الطبيب الا في أرذل ايامه..لم يذق الدواء أبدا..الا في مرض شيخوخته..وكان أيضا مباركا في عمله..فالارض تصبح جنة على يديه و  التراب  يغدو ذهبا بفعل عرقه الغزير فيملأ داره بالخير الوفير..زيتونا..وتينا..وتمرا..وعنبا..وحبوبا..كان ثريا بلا مال..فهو لم يكنز الدراهم..بل اكل من جهد يديه..واكتفى بذلك..لم يمد يده الا ليتصدق او يعطي بسخاء يشبه عطاء الملوك..!!

تراه كل يوم..قبل صياح الديكة..يسير في مسلك اصطنعه على سفح الجبل المحاذي لمنزله..مستندا بيده اليمنى على عصاه..التي جعل في أسفلها قطعة حديدية من بقايا القذائف التي خلفتها الحرب العالمية..تسمع صدى ارتطامها بالحجارة واضحا كانها تخبر القادمين بوجوده..يحمل على كتفه الايسر قفة مصنوعة من ضفيرة "القْدّيم" فيها ما يحتاجه في عمله الفلاحي البسيط.."قادومة" .."تسترة".. "منجل" .. "سطل ماء فارغ".. ثم قبيل الظهيرة يعود ادراجه..تكون القفة ملآنة غالبا بورق الزيتون اليابس " الصّريع" طعاما للماشية..وكثيرا ما كان يدسّ فيه بعض الغلال الصيفية فيؤثرني بها دون أقراني..يجلس في بقايا الظل قبل اشتداد الحرارة..فيتغسل ويتناول ما حضر من طعام..ثم يختار بقعة في مدخل دار الحفر الكبيرة..يفرشها بجلد خروف  ويضع امامه حزمة من "القْدّيم" الاخضر الذي جلبه سابقا..يملأ فمه بجرعات ماء ويرشه عدة مرات حتى يصير طيّعا وينهمك في عملية نسج الضفيرة التي علمني في وقت لاحق اسرارها..لم يمتلك راديو ولم يحفل بتاتا بتلفاز..لم يكن تعنيه اخبار العالم..فله في أرضه ما يعمل..كأنما حاز اطمئنان العارفين..!


هل رأيتم من قبل بشرا في هيئة ملائكة؟ أصادفتم في حياتكم انسانا نقيا طاهرا في أخلاقه وعمله و معاملاته؟ يقولون أن ابن آدم خلق على الفطرة السليمة ثم تختبره الحياة اما مفسدا سافكا للدماء..بشهادة الملإ الأعلى..أو خليفة لله في الأرض معمّرا لها..سائرا في مناكبها بالخير والسلام..ليحقق مشيئة الرحمان..و ذلك دأبه  منذ بدء الخليقة..يتارجح بين الخيارين..

أحيانا يسمو حتى يصل حدود السماء..وأحيانا أخرى يهوي الى الدرك الأسفل..!!

لكنني رأيت جدي فأيقنت بانني شاهدت ملاكا بزي انسان..يسير بين الناس..أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه..لم يأخذ من حطام الدنيا الا ما يسد رمقه..غادرها بلا ضجيج..عاش في جلباب الصالحين..لم يعكر صفو أيامه حقد ولا حسد..قانعا بما تهبه ارضه من خير..معرضا عن مباهج الدنيا..التي فتنت حتى الزاهدين..!

كان دأبه في ايام الصيف حين تشتد حرارة القيظ..أن يُفرش له حصيرٌ في الركن الداخلي من غرفته التي حفرها بنفسه في الجهة الشرقية من الحوش القديم..طلبا  للراحة بعد تناول وجبة الغداء.. يستلقي على ظهره بعد ان يسوّي مخدة صغيرة غلافها من قماش ارجواني من بقايا ملبوس قديم.. مُلأت  صوفا او تبنا.. يضع يده اليسرى تحت راسه..ممسكا بيده اليمنى  مروحة يدوية من سعف النخيل طرزت حواشيها بقطعة كتان باللون الاحمر وأحيانا يمرر كريات مسبحته البنية بين  اصابعه..في حركة روتينية..ويلهج لسانه بالتسبيح المتواصل لا يقطعه سوى جلوسه من حين لآخر لشرب الماء من وعاء فخاري ترشح مسامه برطوبة مستحبة..كان من عادته أن يثني رجله اليسرى فترتفع ركبته الى الاعلى ثم يضع عليها قدمه اليمنى ويغط في نوم عميق يتخلله صوت شخير متقطع..ولا ينهض من مكانه الا قبيل صلاة العصر فيتوضأ ويصلي..ثم يمسك عصاه ويحمل رزمة من "القْدّيم" والضفيرة السابقة التي طالت فوضعها على كتفه..يتوجه الى دكان غير بعيد يجتمع فيه الجيران والأقارب كل يوم..يختار مكانا قصيا..حتى لا يعكر صفوه أحد..فلم يكن مهذارا أو مشاغبا..كل همه أن يقصر الوقت حتى عودته الى المنزل قبيل المغرب..!!!


بقلم: عبد الكريم جماعي. من تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة