في الترام: بقلم إدريس الزياتي

 في الترام


 كان على الضفة  الأخرى   للنهر  يلقي بنظره من النافذة التي تعمد الجلوس  إليها ليستمتع  بتلك المناظر الخلابة،  كان  الوقت صيفا لكن   الطبيعة  تلبس ردائها الأخضر الفاخر   كاد أن يختلط عليه الأمر  مخمنا، لعل الفصول هنا  مختلفة لولا أنه في شهر غشت  من تلك السنة،   ينظر من بعيد   إلى     Remagen  تلك التحفة النادرة ، المدينة  الصغيرة الجميلة التي   تقع على ضفة نهر الراين، وهي تجلس القرفصاء  ملا مسة  أقدام الجبال  كأنها تتمسح بها لحمايتها من كل سوء    كان الجو حارا  لكن  لا وجه للمقارنة بين حرارة الشمس في   بلده الأصلي   وهذه  البلاد  التي  حط رحاله بها للتو،  كان   قد سمع عن ذلك الجسر  الذي   أطاح به الجرمان لتفاذي مرور الحلفاء إلى الضفة الأخرى.   لا يريد  أن يفوت النظر إليه. 


على الضفة المقابلة   تنتشر المقاهي والمطاعم   واكشاك  و المثلجات ومرافئ السفن  السياحية  التي  تتخذ من الوادي ميدانها  التي ترتع فيه   طيلة الموسم    ، بينما تصطف السيارات على طول الطريق ،   على طول النهر  ترى    رمرا من الراجلين   يستمتعون  بتلك  المناظر  الجذابة.

أما ا من الناحية  الأخرى  فتلتف الغابات    علي  خاصرتها  وكذا   مزارع العنب التي  رسمت على الجبال لوحات فنية بديعة،  كان  مأخوذا بذلك السحر الذي  لم يره من قبل  غير مبال  بتلك الحسناء التي   تمسك بيدها  كتابا ،  شقراء قمحبة البشرة، رمحية القد  كأنها من قوم موسى تنظر  تبحث عن وطن  لتحتله    .


كان وسيما    تفتر ابتسامته عن أسنان كاللؤلؤ،   قدر لحظتها   انه غلب على ظنها  أن  لحيته السوداء التي  زينتها بضع شعيرات بيضاء    وهي تغطي   وجهه  إنما  هي    من  صيحات الموضة  التي كانت تضرب الغرب ساعتها خاصة وأنه يرتدي  سراويل قصيرة  و فميصا  أبيض  من ماركة معروفة  منتعلا  حذاء   رياضيا.  فهو قد  عقد العزم   على  المشي طويلا، ليكتشف الأمكنة  و يستمتع   بيومه ذاك.


    كان  أسيرا   لذلك الجمال الرباني الذي  حبا الله به تلك البلاد  رغم  نشوزها    ومروقها  من   القوانين الإلهية  ،   و تشبثها  بالقوانين الوضعية التي تسمها  تلطيفا  بالإنسانية   إذ تضع الفرد في  مرتبة الإله   وتطوع الشرائع لخدمته   وقد تلوي أعناقها  ان دعت المصلحة  لذلك   فهو مركز الكون  وعليه تدور  رحاه.

 

 كان كلما  واتته الفرصة  ليلقي نظرة خاطفة على العربة التي   تجمعه   بأناس  بسحنات  مختلفة   منهم من أهل البلاد  آخرين  يرطنون بلغات مختلفة وجدها  ترفع رأسها  عن الكتاب لتبتسم في وجهه لكنه سرعان ما يعود  إلى  الجمال  الحقيقي  الذي لا زينة فيه ولا مكر  مستعيذا بالبديع  من الشيطان  صاحب الزيغ   والسبيل المريع.

 

 تكررت   العملية مرات ومرات  حتى  إذا أراد   النزول  في محطته    و الذهاب إلى وجهته التي يقصدها أسرعت الى  الباب   كأنها  تريد  النيل منه،  لم يعرف  هل    رأت فيه فارس أحلامها  والشخص الذي كانت تنتظره، أم أنها  الغيرة قد  أشعلت في قلبها نار  الثأر لنفسها    فكونه لم يعبأ بها  وفضل النظر الى  الطبيعة  بدل التمع بحسنها وجمالها ،  جعلها  كالمسعورة  تريد   التهامه ،   كان يهرب  منها كمن يهرب من حتفه، وهي تلا حقه  كمن  يبحث عن ضالته بحرقة بعد أن أضا عها  من بين يديه،  يلوم  نفسه على  تأخره في أخذ المبادرة،  لكن الجموع التي   تملأ  المحطة حالت بينها وبينه   فمن قال أنه ليس في   الزحام  مهربا من  العدو


 إدريس الزياتي

تعليقات

المشاركات الشائعة