حلم يتحقق: بقلم إدريس الزياتي


 حلم يتحقق 


تحت  جنح الظلام   تسلل إلى البيت ، كانت  فضيلة  تتقلب في فراشها،   كأن أحدا يحذرها من  شيئ وشيك الحدوث ،  لعل حاستها السادسة أخبرتها بأن   عليها  أن تخرج  من حالتها  تلك  بين النوم واليقضة،  أخبرتها أن   تتحرك ، وتنظر إلى هذا الذي يحدث، فهي  عاشت وحيدة في بيتها مذ  فارق زوجها  الطيب  الحياة.

في قريتها ، حيث يعر ف الناس بعضهم بعضا، لم يحدث قط  أن حصل ما  يسيئ  إلى أحد،  بسرقة  أو اعتداء،  كان أهل  القرية يعيشون في أمان  واطمئنان ،  سمعت جلبة،  لا ضوء   يستطيع به تلمس الطريق، فقد   اصطدم بآنية  نحاسية  كانت أمام مدخل  الغرفة  المقابلة تماما للباب الرئيسي،   الباب موارب ،  ولج الغرفة  يبحث عن شيئ ما،  يدفع  بكلتا  يديه  أولا   كالأعمى، فالظلام  دامس.


قامت فزعة  تبحث عن عود الثقاب، هي تعرف  جيدا  أين  موضعه  بالضبط  فقد اختارت لكل  شيئ مكانه بدقة،  فهي وإن ذهب  بصرها   فإنها ترى بعين بصيرتها،     أشعلت مصباحا غازيا قديما   حملته بيدها اليسرى  بينما  تتلمس بيدها اليمني الطريق،  لم يلق بالا للضوء  الذي  بدأ يتسرب من تحت الباب  فهو مشغول  ، فتحت الباب  فسمع وقع أقدام   تقترب، لم يتحرك من مكانه قيد أنملة،  بقى على حاله  يبحث كطفل صغير عن لعبته  التي فقدها.


 قالت  بصوت  مرتعش ملؤه الخوف و الدهشة  من هناك؟

 رد  سعيد  بلامبالاة  تامة، كمن يقوم   بمهمة  مقدسة،  أريد شيئا  أأكله،  يتكلم كأنه صاحب المكان، وله الصلاحية كلها ليفعل  ما يريد، استرسل  ببرود تام  ، منذ مدة لم  أذق طعم  الأكل،    قال ذلك  الكلام  الذي نزل على فضيلة بردا وسلاما،  فالمر أة  الخمسينية   كان الخوف قد زلزل أركانها،  لكنها  تعلم علم اليقين  أن لا أحد  يستطيع  من أهل البلدة فعل هذا، لعله  غريب أو عابر سبيل ، قالت ذلك في نفسها  وهي تسترجع  رباطة جأشها،  دعني أساعدك إذن   يا بني، فكل شيئ عندي مرتب  فأنا لا  أبصر كما ترى.


 نظر إليها   ثم اقترب  منها يلوح بيديه أمام عينيها،  كأنه يجري لها امتحانا،  لم تبد حركة  ولا  رد فعل يذكر  فعلم أنها  كذلك،  أمسك  المصباح  من يدها. وقال   افعلي يا أمي  فأنا أتضَور جوعا، نزلت تلك الكلمة على قلبها  كالصاعقة  وهي التي لم تسمع قط  هذه الكلمة  من أحد وظلت تحلم بها طوال عمرها،   قالت  أعد ما قلته  ياولدي؟


 قال بسرعة  لم   أقل شيئا،  نعم قلت  أسرعي يا أمي  فأنا أتضور  جوعا،


 لا  عليك  على رسلك، سوف  تأكل  ولن  تجوع  أبدا  يا بني، فأنت في بيتك،   امك ستعتني بك.


 قال  أنا ليس لي بيت ولا أم  ،  أنام في الشوارع  ولا أأكل إلا  من القمامة، ليس لي  أهل  ولابيت، فمذ  وجدت على هذه  البسيطة  وأنا تائه بين الدر وب أبحث  عن  شيئ لا أعرفه، أبحث  عن مسمى مجهول، لا أستطيع توصيفه ، أ هو الأمان   الدفئ  الغذاء، السكن، الحب،   أم هو  المؤانسة  والرفقة، أم هو العائلة،   الآدمية، أبحث  من الممكن عن انسانيتي التي ضاعت  مني منذ سنين. أبحث عن كل هذا لا أعلم.


 أطرقت مدة ثم قالت :   ما أقساه  هذا العالم ياولدي، عالم متوحش،   في حقيقته  ليس في مظهره، فجميعهم يتحدثون عن   عالم   الحلم    تتجلى فيه الحقوق  والحريات  بجميع أنواعها، يعيش فيه الإنسان كريما، لكن الحقيقة غير ذلك  فالوحوش  القوية تأكل الضعيفة   كأن قانون الغاب هو سيد الموقف  مهما زينوا  من مظاهرهم وكلماتهم  وتأنقوا في  لباسهم    وعطرهم  فإن رائحتهم النتنة تزكم  الأنوف.


  كلما تقدم الزمن  وتطور الإنسان  وادعى  قدرته   تطوره وتقدمه   إلا  نزل إلى الحضيض  إلى مرتبة البهائم  حيث لا  مجال للأخلاق،  فاي    حضارة   هذه  والأخلاق  تندحر يوما بعد يوم؟


  كانت تتكلم  بحرقة ،  بينما يلتهم  سعيد  ما قدمت له بشراهة،   كان يأكل  بطريقة  سريعة   كمن هو خائف  من ذلك القادم الذي سينزع منه  وجبته الدسمة  التي طالما حلم بها..


 قالت  وهي   تتحسس  رأسه لتمسح عليه  من ا لآن   هذا بيتك  وأنا أمك   والدك   رحمة الله عليه  سيفرح في قبره  فقد كان معلم القرية  وطالما  أتى بتلاميذ ه الذين يأتون من مكان بعيد  سيما عندما  يشتد  البرد   و   تفيض الوديان إلى هنا  يلعبون  ويمرحون يأكلون ويشربو ن،يحاول أن   يعوض   ذلك النقص الذي بداخله   .


 كان يأكل   وعقله  قد ذهب  إلى عوالم أخرى، لا يدري أهو في حلم، أم  هو بصدد  حكاية أسطورية  من حكاية الجدات التي  لم يحض بها قط،  لا يعرف  كيف يتصرف، ولا كيف  يرد، وهل يصدق  ما تقوله فضيلة  أم     هو  مجرد  كلام  عابر  في  كبد  الليل  سيفضحه الصباح حينما يطل بوجهه الوضاء.


 كان سعيد يسأل نفسه  هذه الأسئلة  لعله يهتدي  إلى الإحابة

، اختلط عليه    الحابل بالنابل ،    كأنه داخل دوامة لا يستطيع الخروج منها أو لا يريد ذلك،  أحس بالشبع ، والدفئ ، والمؤانسة  ،   وجد  طعم  السكن  والعائلة، كانت عيناه  تغالب النوم  وفضيلة  تريد أن تقص عليه  حكاية  زوجها  الذي كان يحلم  باليوم الذي  يسمع فيها كلمة  أبي. لكن المنية  قد   خطفته  قبل  ذلك.


 لم تتوقف فضيلة   عن الكلام   كان سعيد. يغط في النوم.


إدريس الزياتي


المغرب

تعليقات

المشاركات الشائعة