كل هذا الحب: بقلم رعد الإمارة

 قصة  (كل هذا الحب )


 البنت فاتن لم تكن جميلة، وحتى أكون منصفا فهي كانت أبعد ماتكون عن ذلك، حسنا، كيف أقولها، نعم، كنت أود لو أشحت بوجهي على الدوام، فقط حتى لا يقع نظري عليها! الأنف الكبير الأفطس ، عيناهاالصغيرتان واللتان تكادتخفيهماالمحاجر، هذه البنت، والتي تحمل اسما بعيدا عن شكلها، تقف بالساعات خلف باب بيتهم المنفرج قليلاً، فقط حتى تتنهد حين أمر كالبرق، رغم ذلك فهي رقيقة ، بل هي أرق من باقة كاملة من الزهور، تقول بأني هش، تفعل ذلك حين اسمح لها بين حين وآخر، بأن تمس بحنو عجيب صفحة خدي! لم أكن امنعها، كنت أشعر بعطف غريب نحوها، ربما لكونها بلا أبوين، ولا أشقاء، فقط أخت صغيرة أجمل منها طبعا!. هذه البنت تعيش مع جدتها لكنها تقضي أغلب وقتها في دارنا، تتحايل على أمي لتسمح لها بسرقة أغلب ثيابي، تقوم بغسلهن ودعكهن ثم لاتنسى أن تقوم بكيهن قبل أن تعيدهن ، تراقب ملامحي كثيراً في حضور أمي وشقيقاتي أو في غيابهن، تشعر بأوجاعي، تدرك بحاسة مازلت اجهلها إن كنت سعيداً في جولاتي النسائية ام لا، البنت فاتن تراقب خيباتي المتعددة، تضع يدها على خدها، تمسح دمعاً وهميا وهي تستمع إلى أحاديث أمي التي ليس لها أول ولا آخر، تراقب رأسي الذي يكاد يلامس الأرض، يحمر وجهها ثم تلعن كل النساء وتستثني من ذلك أمي وشقيقاتي، حين أرفع رأسي أجدها تبتسم فجأة وكأنها تقول لي :

_أرأيت كيف انتقمت لك من النساء! . كنت قد استيقظت تواً، بالكاد أزحت الغطاء عن وجهي، الدفء تحت الغطاء  أفضل من برد الشتاء، الذي لفح بسهامه وجهي، لكني رأيتها ما أن انتهيت من فرك عيوني، كانت تجلس عند باب غرفتي، وهي تحدق فيَ بعينيها الحائرتين :

_يالكِ من وقحة. فكرت بأن اطلق هذه العبارة في وجهها العاطل عن الأنوثة، لكني سرعان ما تمالكت نفسي، وتأففت بصوت مسموع بدلاً عن ذلك، أشحت بنظري للحظة، لكنها كانت كافية ليصطدم نظري بفراغ الباب، فاتن تلاشت مثل حلم كريه. بحثت عن أمي ما أن انتهيت من ارتداء ثيابي، كنت جائعاً، وجدت أن أمي الحبيبة، هي خير من يعد الفطور، لشاب تجري في عروقه دماء الحياة:

_تباً والف تب.  ترنمت بهذه الكلمات وأنا اجول في الدار، لا أثر لأمي ولا للبنات شقيقاتي، بل لا أثر حتى لفاتن البعيدة عن أسمها، اوقفني الصوت الصادر عن بطني، ربت عليه، قلت :

_مهلاً، مهلاً، ريثما نعثر على ماما العظيمة. كدت أطلق ضحكتي الكبيرة، وأنا افتش الغرف الأخرى، تخيلت النسوة مختبئات وأني لست سوى الذئب المشهور الذي ُتحكى عنه عشرات القصص!. آه، أنه اجتماع نسائي اذاً، وجدتهن اخيراً، في حديقة دارنا الصغيرة المعشوشبة وشبه المهجورة، كانت فاتن بينهن، لا أعرف ماذا أقول، قرد بين الغزلان، لكن لا، هذا حرام، طردت أفكاري الغبية، قلت وأنا أشير إلى بطني في حركة دائرية :

_ماما!. هبت واحدة من شقيقاتي وتعلقت فاتن بذراعها، لكن أمي أزاحتهن بأشارة من يدها، طلبت مني وهي تحاذيني أن الحق بها، كانت فرصة عظيمة للهروب!. ماكدت أنهي اللقمة الأخيرة من فطوري، وأمسح يدي بطرف ردائي، حتى ملأ خيال فاتن فراغ الباب، قالت :

_سأجلب لك بعض الماء لتشطف يديك، الطقس بارد. اوقفتها بهزة من رأسي، قلت :

_لا داعي، فقط أريد كوباً آخر من الشاي. ياإلهي، علت الحمرة خديها الذابلين وانفرج فمها عن ابتسامة بلهاء، وكأني طلبتها للزواج! رحت اصغي لهرولتها في الخارج، وصوتها الاجش وهي تمنع شقيقتي من دخول المطبخ. كان الطقس في الخارج ينذر ببرودة شديدة، جلبتْ واحدة من شقيقاتي مدفأة كبيرة، لم تمض سوى ساعة حتى شعرت بالخدر يسري في جسدي، حاولت طرد النعاس بتصفح إحدى روايات اجاثا كريستي المفضلة لدي، ثمة خطوات لأكثر من شخص قادم، رفعت رأسي، هذه المرة فاتن ماكانت لوحدها بل تصحبها أختي الصغرى، لم أعر لهن اهتماماً يذكر، لكن أذني صحبتْ همسهن الخافت، فهمت بأنهن مترددات، قلت ووجهي في صفحات الكتاب :

_ نعم، أي خدمة، هل ثمة عروس لي!. قلتها كنوع من الدعابة ، لكن حين رفعت رأسي وجدت البنت فاتن قد اخفت وجهها بل رأسها كله خلف كتف شقيقتي، وكأنها تقول :

_هل تعنيني بكلامك أيها القمر؟ . كدت أضحك، وفكرت بأن استلقي على قفاي وأنا أفعل ذلك، يالكِ من غبية أنتِ وهذه الأخت الصغرى الخرقاء، لكني لم أنطق بأي حرف مما فكرت به، عدت لأقول :

_تفضلا، لاتخجلا، ماذا تريد الأميرتان؟. هذه المرة تقدمت أختي وهي تجر فاتن خلفها، جلست بقربي دفعة واحدة، قربتُ أذني من فمها المنفرج عن ابتسامة لست ادري معناها، قالت :

_تريد فاتن منك أن تعلمها القراءة والكتابة،هذا ماتريد.(يتبع)


بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد


تعليقات

المشاركات الشائعة